خالد بشير
كاتب أردني
سكنت مناطق لبنان قبائل عربيّة عديدة منذ بداية الحكم الإسلاميّ، وفي فترة الحروب الصليبيّة اعتمد الحُكّام المسلمون على تعزيز وجود القبائل العربيّة في مناطق بلاد الشام؛ بغرض مواجهة الحملات الصليبيّة، وكان من بينهم بنو معن من التنوخيين، الذين أصبحوا الأمراء في قضاء الشوف بجبل لبنان.
وبعد دخول العثمانيين إلى بلاد الشام تعاون المعنيون معهم، وأقرّهم العثمانيون مقابل ذلك على حكم الشوف.
إلى أن برز من بينهم أمير امتلك الطموح والعزم وخاض مواجهة مع الباب العالي، فما كان مبلغ طموحه؟ وماذا كانت النتيجة؟
في مواجهة الحلف اليمانيّ
في عام 1584 قُتل الأمير قرقماز المعنيّ، على يد والي مصر، إبراهيم باشا، بعد اتهامه بسرقة قافلة كانت تحمل خراج مصر إلى إسطنبول.
وكان ابنه البكر، فخر الدين، يبلغ 12 عاماً آنذاك، فبقي تحت الوصاية، ولمّا بلغ سنّ الرشد، وجد نفسه بين مجموعة من الأمراء الإقطاعيين الطامعين في سلب ممتلكاته، اعتقاداً منهم بضعفه، وخاصّة من قبل ما عرف حينها بـ “الحلف اليمانيّ”، والذي جمع كُلاً من يوسف بن سيفا، والي طرابلس، ومنصور بن فريخ، أمير البقاع. وفي سبيل مواجهة هذا الحلف شرع فخر الدين بجمع أمراء القيسيّة في المقاطعات المجاورة، فشكّل حلفاً جمع فيه كُلاً من آل شهاب، أمراء وادي التيّم، وآل حرفوش، أمراء بعلبك، كما استطاع جلب مشايخ حوران وجبل عجلون إلى حلفه.
لكنّ تشكيل الحلف لم يكن كافياً للمواجهة، فلجأ فخر الدين إلى التقرّب من والي دمشق، مراد باشا، وقام بوشاية ابن فريخ له ودفعه للتخلّص منه وإلقاء القبض عليه وقتله، وهو ما كان، وعندما حاول ابنه أن يحلّ محلّه، أوعز مراد باشا إلى فخر الدين بمهاجمته، ففعل، وانتقلت أراضي بني فريخ إلى آل حرفوش، حلفاء فخر الدين.
استغلّ فخر الدين تحالفه مع والي دمشق وقام بضمّ بيروت لملكه، وانصرف بعدها للتوسّع جنوباً، وضمّ سنجق صَفَد.
وتسبب ضمّ بيروت في دخوله بصدامات مباشرة مع والي طرابلس، ابن سيفا، الذي اعتبر ضمّها تحدياً وتهديداً مباشراً له، وانتهى الصدام بهزيمة ابن سيفا وتثبيت ملك فخر الدين في كسروان وبيروت.
في تلك الأثناء، كان الزعيم الكردي علي باشا جانبولاد، الذي كان والياً على حلب، قد ثار على الدولة العثمانية مستغلاً انشغالها بحروب البلقان وبلاد فارس.
وإثر توقيع الهدنة مع الفرس وتوقف القتال في البلقان، توجّه الجيش العثماني عام 1607 إلى حلب وقام بالقضاء على جانبولاد وثورته، أمّا فخر الدين، فقد ارتأى مراد باشا، الصدر الأعظم، السكوت عن ملكه، لما أبداه من مهادنة وطاعة، وأقرّ ولايته على صيدا وبيروت وقضاء كسروان.
مواجهة من نوع جديد
لم يهدأ آل سيفا، واختاروا الاتصال بوالي دمشق الجديد، حافظ باشا، وبدؤوا بحثّه على ضرب فخر الدين ومهاجمته، وأشاروا إلى توسّعه في إقامة علاقات مع الأوروبيين من دون علم الدولة وموافقتها.
إثر ذلك، أراد حافظ باشا اختبار فخر الدين، وكانت البداية مع إصداره قرارات بعزل شيخي سُنجُقيْ حوران وعجلون الموالين له، إلّا أنّ فخر الدين واجه قرار الوالي وقام بإعادتهما إلى منصبَيْهما بالقوة من خلال حملة قادها ابنه الأمير عليّ، وهو ما زاد من غَضَب حافظ باشا، الذي بدأ يستشعر بأنّ فخر الدين بات يهدد ولايته وبدأ يخرج عن طاعته.
فقام حافظ باشا بالتنسيق وطلب العون من الصدر الأعظم، الوزير الأول في الدولة العثمانيّة، نصوح باشا، الذي وافقه وأمدّه بجيش من الإنكشاريّة، وأسطول بحريّ مساند.
زحف جيش الحافظ من دمشق ومعه جيش ابن سيفا والإنكشاريّة، وبدأ الإنكشاريّة بالاعتداء على القرى في أراضي الأمير المعنيّ.
وقام الأسطول العثمانيّ بفرض حصار على مرافئ المدن الساحليّة التي يحكمها فخر الدين، لمنع أي إمدادات من الوصول إليه.
وبدأ البحّارة العثمانيون بالنزول إلى المدن وشرعوا بالاعتداء عليها من نهب وتدمير.
فما كان من فخر الدين إلا أنّ قرّر مغادرة البلاد، وأبحَرَ من صيدا باتجاه دوقيّة توسكانا شمال إيطاليا، في أيلول (سبتمبر) عام 1613، واستخلف ابنه علي حاكماً للبلاد.
تابع عليّ المقاومة، بما لديه من حصون ورجال، وكانت قلعة الشقيف – إحدى أحصن قلاع المعنيين – قد استعصت على السقوط أمام جنود الحافظ، وكان يظنّ بأنّ فخر الدين قد أودع كلّ ماله فيها، وبعد صمود حاميتها قرابة ثلاثة أشهر، يئس الحافظ، وتعويضاً عن فشله أطلق رجاله في تخريب وحرق القرى وسفك الدماء، فتعرّضت البلاد لمجزرة، حتى سُمّيت تلك السنة بـ “سنة الحافظ”.
العودة من المنفى… والتوسعّ من جديد
بعد عودة الهدوء، ارتأى الأمير فخر الدين أن يعود من المنفى إلى بلاده، وذلك بعد 5 سنوات قضاها بين إيطاليا وإسبانيا.
وكان ابن سيفا قد أغار في غيابه على دير القمر، مقرّ حكمه وهدم قصره، فعزم فور عودته على مهاجمة عكّار، مقرّ حكم آل سيفا، فهاجمها وهدم قصورهم، إلى أن تنازل له ابن سيفا عن مقاطعتيْ جبيل والبترون.
وكان ابن سيفا يُماطل في إرسال أموال الضرائب، فعيّنت الدولة على طرابلس والياً جديداً، ولكنّ الوالي الجديد كان ضعيفاً، وعجز عن تحصيل الضرائب، وفي عام 1625 لم تجد الدولة العثمانية من خيار سوى تولية الأمير فخر الدين على ولاية طرابلس، فأصبحت تابعة له كذلك.
اتجه فخر الدين بعدها إلى البقاع لمحاربة آل حرفوش الذين نقضوا حلفهم معه أثناء غيابه، واستعانوا بوالي دمشق، مصطفى باشا، الذي حَضَرَ المعركة على رأس قوّات تحت إمرته، ووقعت بين الجيشين معركة في “عنجر”، وكانت النتيجة أنّ جيش الوالي وآل حرفوش أرغموا على الانسحاب ووقع الوالي في أسر الأمير، ولكن الأمير اختار إكرامه وإطلاق سراحه، فكافأه الوالي بأن ولّاه على البقاع.
التمدّد في سوريا
بعد هزيمته في البقاع، قام والي دمشق مصطفى باشا بتجديد حكم فخر الدين على سنجقيّات صفد والجليل ونابلس، وزاد عليها عكا والناصرة وطبريا وعجلون.
وبعد أن امتدّت إمارته في الجنوب، اتجه فخر الدين للتوسّع شمالاً؛ إذ كانت غالب المقاطعات يحكمها حكام ضعاف، وكان والي دمشق غير قادر وحده على مجابهته، فاستولى على حمص وحماة، ثم بلغ نفوذه حلب، فبنى قلعة قربها، وباتجاه الشرق، وصل إلى تدمر، وبنى قلعة فيها، وفي الجنوب تجاوز سنجق صفد ليشمل حكمه سنجق القدس وصولاً حتى غزة.
كان الباب العالي يراقب توسّعه بحذر، لكنه فضّل بدايةً استرضاءه واستمالته على الدخول في مواجهة معه، كان يُخشى أن ترهق الدولة وتستنزف مقدراتها، خصوصاً في ظل ثورة الإنكشاريّة آنذاك. وفي عام 1624 ارتأى الباب العالي منح الأمير فخر الدين لقب “سلطان البر”.
وبات فخر الدين يُعرف بين أروقة الدولة والحكام بأنّه “أمير عربستان”؛ أي أمير بلاد العرب.
جولة ثانية حاسمة
استدعى توسّع أملاك فخر الدين تصاعد العداوات والأحقاد تجاهه بين عدد من الحُكّام والولاة، وفي مقدمتهم والي دمشق ووالي حلب، اللذان شعرا بأنه بات يهدّد ملكهما، إضافة إلى تربصّ رجال الحزب اليمنيّ به، وكان جميع هؤلاء يرسلون الشكاوى ضده إلى الباب العالي. وجاء في شكوى قدّمها والي حلب أنّ غاية الأمير من إعادة إعمار القلاع والحصون إنما هي الإعداد والتحضير للانقضاض والاستقلال عن الدولة.
كانت الدولة في تلك الأثناء تخوضُ حرباً مع الدولة الصفويّة على حدودها الشرقيّة، في حين كانت ثورة الإنكشاريّة قد اشتعلت في الوقت نفسه أيضاً، وكان يقودهم آغا الإنكشاريّة، خسرو باشا البوسنويّ، إلى أن تمكّن السلطان العثماني، مراد الرابع، من القضاء على ثورة الإنكشاريّة وأمر بإعدام خسرو باشا، وكان ذلك في عام 1632م، وتلا ذلك قيادة السلطان الجيش العثماني لانتصار في الحرب مع الصفويين، وتمكّن من إخضاع تبريز والعودة منتصراً إلى الأستانة.
إثر ذلك، استجاب السلطان للشكاوى، ووجّه عزمه للقضاء على الأمير فخر الدين، فجهّز قوة برّية قوامها ثمانون ألف مقاتل بقيادة القائد أحمد الكجك، بعد أن عيّنه والياً على دمشق، شريطةَ أن يقضي على الإمارة المعنيّة، إضافة إلى تجهيز قوة بحريّة من عشرين سفينة، بقيادة أمير البحر جعفر باشا.
النهاية
لمواجهة الحَمْلة شَرَع الأمير بتنظيم قوّاته، إلّا أنّ مصرع ابنه عليّ في المواجهات الأولى مع قوّات الكجك سرعان ما بعثر ما لديه من أوراق وأضعف من موقفه، وكان تعويله عليه كبيراً. وشرعت قوّات الكجك بإسقاط الحصون المعنيّة واحداً تلو الآخر.
إثر ذلك، توجّه الأمير إلى قلعة “نيحا” في الشوف وتحصّن فيها، وشرع بمفاوضة العثمانيين عارضاً عليهم المال مقابل إنهاء الحملة والانسحاب.
ولكن الكجك كان لديه حسابات أخرى؛ فكان طامعاً بالحصول على كامل مدخّرات الأمير، إضافة إلى طمعه بالحصول على المكافأة المرصودة من قبل السلطان لمن يأتي بفخر الدين، ففرض حصاراً على القلعة دام مدّة سنتين.
وبقي الحصن صامداً إلى أنّ قام أحد خَدَم فخر الدين بخيانته فدلّ الكجك على مجرى الماء الذي يزوّد الحصن، فقام الكجك بإفساد الماء وإلقاء القاذورات فيه، ولما أحسّ الأمير بذلك غادر القلعة ليلاً واختبأ في مغارة في جبال جزّين، إلّا أنّ الكجك ورجاله استمرّوا بملاحقته حتى عثروا عليه وألقوا القبض عليه، واقتيد إلى الأسر، وأودعه الكجك في سجن قلعة دمشق، قبل أن يتمّ نقله إلى إسطنبول، وكان ذلك في عام 1635.
في إسطنبول، واجه فخر الدين السلطان مراد مباشرةً، واستطاع إقناعه أنه كان موالياً ومطيعاً للدولة ومؤدياً لما يُطلَب منه من أموال، وأنه لم يعلن العصيان قطّ على الدولة، فقرّر السلطان معاملته معاملة حسنة ووضعه في إقامة جبريّة. إلّا أنّ الأحداث كانت تتسارع باتجاه آخر على الأرض؛ إذ ثار ابن شقيقه، الأمير ملحم، ثأراً له، وهاجم جيش والي دمشق، وهاجم أنصاره مدن صيدا وبيروت وأعادوا انتزاعها من قوّات الكجك.
عندئذٍ، ولمواجهة هذا التمرّد وضربه، أمر السلطان مراد بقتل زوجات الأمير فخر الدين الأسيرات في دمشق، وبقتل فخر الدين، فضُربت عنقه، وعُلّق رأسه على باب القصر العثمانيّ.
وكانت تلك نهاية فخر الدين وإمارته الطموحة.
المصدر : حفريات
0 تعليق