لا أحد يأسف على زوال ودحر الأنظمة القمعية التي تحكم الشعوب بسفك دمائها في أي مكان كان، لأن الصفات البشرية السليمة التي لم تتسخ بالمصالح الجزئية بما تجعلها تتقبل الظلم والقمع على غيره ولا تقبله على نفسه.
في العراق حدث تغيير للنظام في عام 2003 وفي سوريا بعد ثلاث عشرة سنة من القتل والتدمير لشعب ثائر لم يكن يطلب سوى ما هو حق له بالفطرة والخلقة الأولى، بعد تلك الفترة الحالكة تغيرَ النظام، ربما هما نظامان بعثيان حكما بغداد ودمشق، ادعيا القومية وتحرير فلسطين، حكما بأدوات القمع والتسلط والاستبداد شعبيهما، لم يقصرا في الظلم، لم يكونا من أهل العدل إلا في توزيع الظلم على الناس، لكن طريقة التغيير وبداياته مختلفة بين التجربتين، هنا نذكر فقط ما له وجه عملي واتصال مباشر بالشعب المظلوم المكلوم، وبما ان التجربة العراقية كانت سابقة على السورية، فإن معيار القياس للحالة السورية سيكون الحالة العراقية، وفي ضوء النتائج التي وصل اليها العراقيون خلال السنوات الإحدى والعشرين المنصرمة، يكون الحكم على المراحل الأولى للتغيير في وسورية.
1- التغيير في العراق لم يأت من الداخل، أي لم يأت من الشعب بذاته دون تدخل خارجي مباشر، وإنما كان غزواً عسكرياً من أعظم قوة عسكرية موجودة في العالم بمساعدة دول أخرى عظمى وصغيرة، ومع أن قوى عراقية كانت موجودة وتحارب لعشرات السنيين، لكن بما أن الضربة الأخيرة كانت من قوات أجنبية، فقد حكم القانون الدولي بأن العراق دولة محتلة، وبما أن الاحتلال موجود جاءت مقاومة الاحتلال حالة طبيعية من طرف الجميع، باستثناء منطقة كوردستان التي لم يدخلها الجنود الغزاة، مقاومة الاحتلال الأمريكي و الدفع المخابراتي من بعض الدول جعل الوضع لا يطاق من الناحيتين الأمنية والخدمية، لحد الآن الحالة السورية لعدم وجود الاحتلال الخارجي لم يحدث كل ماوقع في العراق من شيء.
2- إيران كانت حاضرة على الأرض العراقية من الساعات الأولى في سقوط النظام، وإيران لم تدخل كمؤسسات تلتزم باستقلالالدولة، وإنما كدولة نافست الولايات المتحدة على الحضور العسكري والسياسي، والحاجة الاقتصادية الإيرانية نتيجة الحصار المفروض عليها من الغرب، جعل من العراق الأرض الخلفية لبيت متهالك مناسبة للزرع والحصاد، النزاع الإيرانيالأمريكي دفاعاً عن الامن القومي الايراني على الأرض والصدامات التي ميزت الحالة العراقية دفع العراقيين ثمنها من أرواحهم وأرزاقهم، ونشرت التخريب لمجمل مؤسسات الدولة. في سوريا لا توجد إيران بالشكل الذي كان في العراق، خاصة أن في سوريا لا توجد الأرضية الثقافية والاجتماعية المساعدة للتوغل والتغلغل، الحالة الفكرية والثقافية في سوريا مختلفة تماماً، فالأرضية في العراق في الوسط والجنوب جاهزة للإيرانيين، لكن في سوريا لا تمتلك طهران الأدوات العسكرية والدينية التي لها في العراق وتضرب بها متى تشاء.
وسوريا في نظامها كان لها دور كبير في توتير الأمن وإيذاء الأمريكيين والعراقيين معاً من أجل دفع الأمريكيين الى عدم التفكير في تكرار التجربة العراقية مع النظام السوري، لهذا كانت الحدود السورية مفتوحة للجماعات المسلحة المتشددة للدخول الى العراق.
3- الطائفية في العراق مشتعلة، وجاءت القوى التي استولت على السلطة بعد التغيير وفي خيالهمهدمُ نظامٍ طائفي معاد، ونتيجة الرغبة الإيرانية في نشر الفكر الديني الخاص بها، ومدّ عينها الى الدول العربية المجاورة للعراق، ودخول مجموعات مسلحة عراقية وغير عراقية على الخط، اشتعل العراق ، كما أنّ التصفية الطائفية والتذكير بمآسي التاريخ لم يكن بحاجة الى الاقتصار على التلويح، وإنما كان بالتصريح والتباهي به، أي أن القوى لم تأت لإستئصال الدكتاتورية وإنما لتغيير اتجاه حكم يعود الى قرون مضت من التاريخ، ومن ثم كانت الجثث ملقاة في الشوارع اغتيالاً، وثلاجات المستشفيات تمتليء لأناس صفّوا جسدياً بعد اختطافهم وسحبهم من حضن عائلاتهم، في سورياإن المشاهد التي رأيناها خلال الأسبوعين الماضيين أوحت بأن تجنب النزاعات الطائفية والقومية سياسة تعتمدها المعارضة التي أصبحت حاكمة
4- التعامل بروحية الثأر كان من الدوافع لكثير من السياسات والسلوكيات الرسمية والفصائلية، الثأر ليس من الحاضرين وإنما من الغائبين أيضاً، الثأر من التاريخ، فمزقت العراقيين شرّ ممزق، ورمت بهم الى مختلف بقاع الأرض، شردت الناس ودمرت البناء وحطمت الأرواح وأفرغت البلد من رجالها ونساءها، في سوريا، الى الآن لايبدو إن الثأر موجود في نوايا القائمين بعملية التغيير، حتى في اسم المعركة التي بدأت من حلب كان “ردّ العدوان” وليس الأخذ بالثأر كما حدث في معركة الفلوجة سنة 2012.
5- كان هدف التغيير في العراق لم يكن النظام فقط، وإنما النظام والدولة والحكومة، فحلّ كل مؤسسات الدولة و افرغت دوائر الحكومة من موظفيها، وحلّ الجيش والشرطة، فكان الخراب شاملاً، شعب بعشرات الملايين أصبح في لحظة واحدة في الشارع بلا رقيب ولا حسيب ولا معيل، والظلم قد وقع على عائلات المنتمين لتلك المؤسسات الأمنية والعسكرية، دفع بهم ذلك الى أحضان المجموعات الإرهابية وغير الإرهابية المقاتلة، كانوا يشاركون في رزع الألغام والعبوات في الشوارع وتحت العربات العسكرية والمدنية مقابل الحصول على شيء قليل من المال، ونتجية الإحساس بالظلم والفراع المؤسسي الحكومي كان اللجوء الى أخذ الحق بالقوة، وكان الانفلات الأمني الذي لم يرحم، أحياناً كانت العاصمة بغداد تهتز على وقع ما يقرب من عشر سيارات تنفجر في اليوم الواحد، في سورية لا يوجد شيء مثل هذا، لم تمس القوى المنتصرة أية مؤسسة من مؤسسات الدولة، وأبقت على الحكومة ذاتها التي كانت تدير الأمور تحت عين النظام الساقط، لأن الفراغ الإداري والمؤسسي يخلق الفوضى في الشارع.
6- مسألة النظر الى المجتمع نظرة تكفير وتفسيق والخروج على مباديء الدين الصحيح، عندما جاء داعش الى العراق بعد عام 2014 جعل من المجتمع كل المجتمع عدواً، وظَلمَ أهلَ السنة قبل الشيعة، ونظر الى الممتلكات العامة كغنائم حرب، ليس الأشياء فقط، بل البشر أيضاً، وكان سبي النساء، أما في سوريا فالأمر مختلف إختلافاً كلياً.
يبدو من النظر الى الاحداث القائمة في سوريا بأن القائمين على الامر وفي مقدمتهم هيئة تحرير الشام قد أخذوا الدروس من التجربة العراقية، العراق الحكومي وعراق تنظيم الدولة أيضاً، لهذا جاءت النتائج مختلفة احتلافاً شبه كامل.
ما نتمناه للشعب السوري كجزء من الشعوب المسلمة، هو الراحة بعد تعب طويل مرير، الهدوء والاستقرار والأمان، والانطلاق نحو بناء المستقبل، وليكون مستقبلاً مشرقاً يتوجب العمل بناء على مبدأ العدالة والمساواة بين مكونات هذا الشعب الأبي، والتعامل مع التعدد والتنوع الديني والإثني كجعل الهي من أجل التعارف والتعاون وليس التنابذ والخصام، فهم يبدو عليهم أنهم يريدون رسم مستبقلهم مختلفاً عن الرسم العراقي، وهذا من ملامح النجاح وعلامات الخيرفي عملية التغيير، ويتطلب ذلك منهم سدّ أبواب الشقاق، ولا عجب في ذلك بما أن الإعتبار من الاخرين وتجاربهم من أسس الحياة كما نص رب العالمين في القرآن الكريم “قُل سيروا في الأرص”.
0 تعليق