عبد الحكيم العياط
بينما تتواصل النقاشات حول إصلاح القطاع الصحي في المغرب وتطويره، تظل ظاهرة النفوذ القوي للوبيات في هذا القطاع محط قلق لم تتم مناقشته بشكل كافٍ في الساحة الإعلامية. فهذه اللوبيات تشمل شركات الأدوية، المصحات الخاصة، وشركات التأمين، وهي كيانات تملك من الموارد والنفوذ ما يمكنها من التأثير على السياسات الصحية، أحيانًا بما يتعارض مع مصلحة المواطن. تشير التقارير والإحصائيات الحديثة إلى أن هذا النفوذ لا يزال يتصاعد بشكل قد يهدد استقلالية السياسات الصحية ويعرقل جهود تطوير الخدمات.
لوبيات الصحة في المغرب: النفوذ الخفي
بحسب تقرير نشره مجلس المنافسة ، أن سوق الدواء في المغرب يتحكم فيها 15 مختبرا بنسبة 70 في المئة من حصص السوق، أما بالنسبة لبعض الفئات الدوائية فإنها جدّ مُمركزة مع وجود احتكارات ثنائية، أو احتكارات قلة تحتل وضعية شبه هيمنة. وأضاف أنها سوق ضعيفة الشفافية، مع غياب سياسية عمومية حقيقية للدواء الجنيس، مقرونة بشبكة للتوزيع غير ملائمة وفي وضعية أزمة تؤدي إلى احتضار المكوّنات الضعيفة والهشة لهذه السوق. ويشير التقرير إلى أن هذه الشركات المتحكرة تتمتع بقدرة عالية على التحكم في أسعار الأدوية، خاصة الأدوية الأساسية، والتي تشكل ضرورة يومية للمواطنين. هذا النفوذ يمكن اللوبيات من فرض أسعار مرتفعة نسبيًا على منتجاتها، مما يزيد الأعباء المالية على المستهلكين، حيث تؤكد البيانات والتقارير أن ثمن الدواء في المغرب يعرف ارتفاعا على العموم من مثيلاته في دول أخرى (30 إلى 189 في المئة مقارنة مع تونس بالنسبة للأدوية الأصيلة)، إلى جانب الاختلاف الكبير بين أثمنة نفس الدواء تحت علامات تجارية مختلفة بنسب تصل إلى 600 في المئة، كما تختلف أثمنة نفس الدواء تحت نفس العلامة التجارية حسب المكان الذي تشترى منه بنسب تصل إلى 300 في المئة.
في قطاع التأمين الصحي، تشكل شركات التأمين الخاصة لوبيًا آخر يحاول الاستفادة من الإصلاحات الصحية لصالحه. تقرير صادر عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي عام 2023 يظهر أن شركات التأمين تحقق أرباحًا سنوية تقدر بـ 1.5 مليار درهم من عقود التأمين الصحي وحدها، وهو ما يشير إلى استفادتها الكبيرة من البرامج الحكومية دون تقديم خدمات متكاملة تخفف العبء عن المؤسسات العامة.
تحديات وزارة الصحة أمام سطوة اللوبيات
في مواجهة هذه اللوبيات، تواجه وزارة الصحة والحماية الاجتماعية تحديات جمة في تحقيق إصلاح شامل ومستدام للقطاع. فرغم محاولاتها إدخال برامج التأمين الصحي الشامل وتحسين البنية التحتية للمستشفيات، إلا أن النفوذ المالي والضغط السياسي الذي تمارسه لوبيات الأدوية والتأمين يشكلان عقبة حقيقية أمام تنفيذ هذه السياسات بنجاح.
التحديات تتضح أكثر عند تحليل إحصائيات الإنفاق الصحي؛ إذ تشير بيانات البنك الدولي إلى أن المغرب ينفق ما يزيد عن 6% من ناتجه المحلي الإجمالي على الصحة، لكن أكثر من 40% من هذا الإنفاق يأتي من جيب المواطن، في حين أن المتوسط العالمي للإنفاق الشخصي على الصحة لا يتجاوز 30%. هذا التفاوت يشير إلى أن المواطن المغربي يتحمل تكاليف عالية بسبب اعتماد النظام الصحي على القطاع الخاص الذي تسيطر عليه لوبيات الأدوية والمصحات.
شفافية التعاقدات وآليات المراقبة كخطوات ضرورية
لمواجهة تأثير هذه اللوبيات، يصبح من الضروري تبني الحكومة لإجراءات تعزز الشفافية في العقود والصفقات، وتضمن التوازن في القوة داخل المنظومة الصحية. أحد الحلول المطروحة يتمثل في تعزيز دور الهيئات الرقابية وجعلها أكثر صرامة في رصد الانتهاكات والممارسات الاحتكارية. على سبيل المثال، كشف تقرير حديث للهيئة العليا لمراقبة المنافسة عن وجود مؤشرات قوية على اتفاقات بين شركات الأدوية لتحديد الأسعار والسيطرة على السوق، وهو ما يفرض الحاجة إلى تكثيف التحقيقات والمساءلة.
توصي الهيئات الرقابية بضرورة إلزام جميع المتعاقدين مع الحكومة في المجال الصحي بإجراءات الشفافية والإفصاح عن المصالح المشتركة. هذه الشفافية ليست مجرد مطلب أخلاقي، بل هي ضرورة لحماية المصلحة العامة وضمان تقديم خدمات صحية ميسرة للجميع، بعيدًا عن تضارب المصالح الذي يرفع التكاليف على المواطن العادي.
نحو نظام صحي مستقل: بناء السيادة الصحية
إذا كانت الحكومة تسعى جديًا لتحقيق العدالة في توفير الخدمات الصحية، فعليها أن تتبنى سياسة متكاملة تهدف إلى تحقيق استقلالية القطاع الصحي من تأثيرات اللوبيات، من خلال زيادة الاستثمار في المستشفيات العمومية، وضمان بيئة تنافسية تلغي احتكار شركات الأدوية والسعي نحو تشجيع الصناعات الدوائية المحلية لتغطية نسبة أكبر من احتياجات السوق المغربي.
بحسب إحصائيات منظمة الصحة العالمية، فإن إنتاج الدواء محليًا يسهم في خفض التكلفة بنسب تصل إلى 50%، خاصة إذا كانت هذه الأدوية تخضع لمراقبة حكومية صارمة. وفي هذا الإطار، يحتاج المغرب إلى توسيع نطاق الصناعات الدوائية المحلية لتغطية نسبة أعلى من احتياجاته وتقليل الاعتماد على الأدوية المستوردة، بما يكسر احتكار الشركات الكبيرة.
في الختام، يطرح سؤال جوهري: هل تملك الحكومة الإرادة الحقيقية لمواجهة هذه اللوبيات وحماية المواطن؟ إن الأرقام والتقارير تؤكد خطورة الوضع الحالي، وتبرز ضرورة اتخاذ خطوات حازمة لضمان استقلالية القطاع الصحي. ربما تشكل الإصلاحات الحالية خطوة في الاتجاه الصحيح، لكنها لن تكون كافية دون مكافحة اللوبيات بشكل أكثر صرامة.
لا يمكن تحقيق العدالة الصحية إلا بإرساء الشفافية التامة، وتبني آليات مراقبة صارمة، وتطوير استراتيجيات تضمن استقلالية النظام الصحي. إن هذا التوجه سيحقق في النهاية مصلحة المواطن، ويضمن له حقه في خدمات صحية بجودة عالية وبأسعار معقولة، بعيدًا عن استغلال اللوبيات.
0 تعليق