ليس غريبا على مكناس الحبلى بأيقونات الثقافة والفن والصحافة والإبداع، أن تنظم مهرجانا دوليا في المسرح، رافعا شعارا ثقيلا ليس بالهين “مكناس خشبة لمسارح العالم” والجميل أن المهرجان في نسخته الثالثة، مما يوحي على تراكم تجربة قبلية، رغم أنها تجربة تبقى جنينية ألا أنها قادرة على تطعيم المهرجان بفقرات وعروض وتظاهرات لا تخلو من لمسات عالمية تعكس التلاقح الثقافي والتجاسر الفني الذي ينادي به الكاتب والناقد بوسلهام الضعيف رئيس مسرح الشامات ومدير المهرجان.
إن الحديث عن المهرجان يقتضي العودة خطوات إلى الوراء لاستحضار الأرشيف الثقافي الحافل بالإنجازات النوعية للحاضرة الإسماعيلة، لمعرفة أن مكناس كانت دائما ذاكرة مسرحية ومدينة المسرح بدون منازع، وقد سبق أن احتضنت الدورة الأولى للمسرح الوطني، ثم لأسباب واهية لاداعي لذكرها قام رعاة المجال بنقل المسرح إلى مدينة تطوان.
بما أن المناسبة شرط، نقول بصوت عال: أن مدينة مكناس كانت وستبقى عاصمة الركح والفن والثقافة والتراث، والدليل أن تنظيمها لمهرجان دولي هو اعتراف أن المدينة ظلت وستبقى أيقونة أبو الفنون، وملتقى للثقافات من جميع أنحاء العالم، في خضم سياق تبني مسؤولية الفن والثقافة داخل مكناس، فإننا نثمن الدور والمسؤولية التي تقلدتها جمعية الشامات بقيادة رئيسها بوسهام الضعيف الذي لا يختلف أحد على كفاءته في مجال المسرح، وباعتراف نقاد وفرق مسرحية فإن فرقة الشامات عايشت الميدان لعقدين من الزمن، راكمت فيه عروضا وورشات ومسارح الأحياء واكتسبت تجاربا لا يستهان بها، واستطاعت أن تضاهي بأعمالها جمعيات ذاع صيتها وطنيا كجمعية أنوار سوس بأكادير، وجمعية الصويرة موكادور، وجمعية محترف المسرح…
حقيقة، لاطالما اعتبرت معية مهتمين بالشأن الثقافي المحلي، أن خوض الشامات غمار تنظيم مهرجانا دوليا يضع مكناس قلب مسارح العالم، بمثابة التكليف لا التشريف، وأنها مغامرة أكثر من أنها مبادرة، لكن الاستمرار الناجح في تنظيم النسخة الثانية ثم الثالثة هذه الأخيرة التي امتدت من 11 إلى 15 دجنبر، أثبت أن الجهة المنظمة أهل لذلك وأنها على دراية وخبرة كبيرة بمجال ومكونات المسرح تنظيما وتتويجا، نصا وعرضا.
ثم تجاوزا لحجم المسؤولية التي تقلدها مدير المهرجان بوسلهام ضعيف، والتي ينافس بها العديد من المبادرات الثقافية.
فإن أي جمعية لها الحق في التقدم والمشاركة في هاته التجربة النوعية، تحت إطار جمعوي تتعدد فيه الأفكار وتتوحد فيه الرؤى كما سبق للناقد محمد أمنصور أن صرح بذلك.
إن مسألة تقلد جمعية واحدة لتنظيم مهرجان بحجم مهرجان دولي، لضرب من ضروب الاستهان من جهة، وجرأة وشجاعة فنية من جهة ثانية، ولا نريد أن نقول جانبا من الجوانب التي سقطت سهوا عن إدارة المهرجان، وهذا مجرد نقد بناء لا يقلل من شأن جمعية الشامات، وإنما فكرة “مكناس خشبة لمسارح العالم” هي بمثابة شعار قوي وعنوان ثقيل، ومسألة تشخيصه عالميا وتجسيد طابعه الدولي قد يستعصي على جمعية واحدة وإن كانت بتجارب وبحجم جمعية الشامات.
لذلك؛ حبذا لو كان المهرجان يشمله إطار جمعوي، يضم مجموعة فعاليات، كي لا يهيمن على المبادرة الطابع الفردي في الإدارة والتنظيم، ثم بعيدا عن لغة الضرب من حديد واللهجة التشاؤمية، وبما أن التجربة في نسختها الثالثة أي فجميع الأحوال تُعتبَرُ حديثة العهد، فالمبادرة تنحو إلى تجريب مسرحي يؤسس الفعل، وأن الدورة تحدٍّ واستمرارية من جانب، وتعبيد الطريق لدورات مستقبلية أكثر إشعاعي من جانب آخر، أي أن نواقص في التأطير أو التنظيم مشفوع لها، ومن ذلك وجب التصفيق لجمعية الشامات ولطاقم الإدارة، شريطة أن الدورات المقبلة تحتاج خطوة دقيقة وصينة إلى الوراء من أجل التقدم خطوات ثابتة نحو الأمام، كي لا يجد المهرجان نفسه على مستوى خط تحريري أحادي النظر، يعكس ويكرس تصور فردي معين.
في سياق متصل؛ نطرح سؤالا مفاده، كيف يتم تحصين هذه التجربة من الانغلاق والانفرادية وتحصينها ماديا؟
ربما الجواب منطقيا؛ أن الإمكانيات التي تتوفر عليها عدة إطارات جمعوية متظافرة، ليست إطلاقا نفسها التي قد تتوفر وتتحملها جمعية واحدة.
أيضا لنطرح تساؤلا آخرا أكثر أهمية، سؤالا حمالا لعدة أوجه، ينبغي التفكير فيه مليا، ولعله أبلغ بكثير من أي إجابات شافية!! التساؤل كالآتي: إلى أي حد قامت الجهات المسؤولة التي تبنت هذه التظاهرة، على دعم ومساندة القائمين على المهرجان سواء ماديا أو لوجيستيكيا؟ لاسيما أن أي مهتم يعلم وجود فرق أجنبية من أوروبا وأخرى عربية وإفريقية.
ومن جانب أخر وهو جانب إيجابي ومشرق؛ تجلى في كون هاته الاحتفالية الدولية تعيد لمدينة مكناس في كل نسخة أوجها وإشعاعها الفني والثقافي، وأنها فعلا خشبة للتلاقي والحوار وجسر لتلاقح قيم الحرية والإبداع والحداثة.
احتفالية وتظاهرة ثقافية تواصل ما بدأه الرواد وتحافظ للعاصمة الإسماعيلية على هويتها، وبما أن التجربة تبنت إضفاء البعد الدولي داخل المدينة، فإنها تحتاج إلى المزيد من التطعيم الإداري والتنظيمي، وانفتاح أكثر على تجارب ومسارح كونية، ومنه؛ لابد من الاستعانة بخبرات محلية وطنية كالناقد عبد الرحمان بن زيدان، وأعمال حسن المنيعي… والتلاقح والتعاون مع فرق وقامات مسرحية لها صيتها عالميا.
ختاما؛ لا يسعنا سوى أن نصفق للفاعلين والقائمين على المهرجان، وأن نرفع القبعة لشخص “بوسلهام الضعيف” لوقوفه على قدم وساق من أجل مواصلة ما نشأ عليه في المدينة، وأن ننوه ونشيد بالدور الكبير للجسم المسرحي الذي ساهم وسهر على إنجاح التظاهرة الدولية، انطلاقا من يوم الافتتاح ومرورا بالانتقاء المحكم للفعاليات وللقامات الفنية التي تم تكريمها، وانتهاء باختتام الدورة وإسدال الستار، وبالتالي تسليط الأضواء على مكناس وجعلها منارة ثقافية تضاهي أعتى المسارح الدولية، مستحقة شعار “مكناس خشبة لمسارح العالم” مؤكدة أنه شعار حقيقة لا مَجازا.
0 تعليق