منتصر حمادة
كاتب مغربي
في غضون عام 1960، أصدر عالم السياسة الأمريكي، دانيال بل، كتابه الشهير “نهاية الأيديولوجيا”، وكان يقصد حينها الأيديولوجيا الشيوعية بالتحديد، وقد انتظرنا سقوط جدار برلين في 1989، حتى نعاين أولى تطبيقات النبوءة.
ولكن أحداث الساحة، منذ سقوط جدار برلين حتى اليوم، تفيد أنّ العالم عاين أحد أهم تطبيقات أطروحة دانيال بل، مع فوز الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في الاستحقاقات الانتخابية الرئاسية؛ لأن الأمر لم يعد مقتصراً على المرجعية الشيوعية، وإنما امتد إلى شتى المرجعيات السائدة؛ فبينما صنفت بعض الأقلام البحثية ظاهرة ترامب وغيره من الزعماء السياسيين في خانة “الشعبوية السياسية”، فإنّ فوز الرئيس ماركون كان حدثاً صادماً للأقلام البحثية ذاتها؛ لأنه قادم من عالم المال والأعمال والاقتصاد بشكل عام، ولا توجد لديه أي مرجعية أيديولوجية واضحة، وتمكّن من الفوز على جميع المرشحين المنافسين، ومن شتى المرجعيات، اليمينية واليسارية.
وبالموازاة مع هذه التحولات النظرية والميدانية التي تمر بها العديد من بقاع المعمور، كانت المنطقة العربية تتميز بارتفاع أسهم الإسلاموية، وبَدَهي أنّ الحديث عن “نهاية الأيديولوجيا”، في نسختها العربية الإسلامية، سيُقابل حينها بنقد شديد، إن لم نقل سخرية، صادرة عن هذه الأيديولوجيات، ولكن هذا النقد الحاد سيتضاءل عند اليساريين، كلما تحدثنا عن “نهاية الأيديولوجيا” على هامش تراجع شعبية الأحزاب الاشتراكية خلال العقدين الأخيرين.
وتمت تزكية ذلك مباشرة بعد اندلاع أحداث “الربيع العربي”، في كانون الثاني (يناير) 2011، مقابل استمرار حدة النقد ذاته والصادر عن المرجعيات الإسلاموية، طيلة تلك الفترة؛ أي منذ عقود حتى مطلع العقد الحالي؛ لأننا كنا نعيش زمن الإسلاموية، الدعوية والسياسية والقتالية أو “الجهادية”.
يمكننا إذاً التأريخ لأولى محطات أفول الإسلاموية انطلاقاً من حزيران (يونيو) 2013، مع سقوط مرحلة حكم جماعة الإخوان المسلمين في الدولة التي أنجبت الظاهرة.
صحيح أنّه صدرت قبل هذه المحطات الزمنية، بعض الأعمال التي توقفت عند أفول المشروع، والحديث عن كتاب “فشل الإسلام السياسي” للباحث الفرنسي “أوليفيه روا” في العام 1992، أو كتاب “ما بعد الإسلام السياسي” للباحث الإيراني “آصف بيات” في 2005، ولكن، على غرار التعامل سالف الذكر مع كتاب دنيال بل، قوبلت هذه الأعمال بلامبالاة من طرف المرجعيات المنافسة للمرجعيات الإسلاموية، كما قوبلت بالصمت من طرف المرجعيات الإسلاموية لاعتبارات متوقعة، دون الحديث عن اعتبار أهم وبنيوي في المنطقة العربية؛ أي التقزيم من هاجس المعرفة والعلم والبحث العلمي (يكفي مقارنة الفوارق الدالة بين الأعمال المترجمة في الساحة الإسبانية مقارنة مع ما تتم ترجمته في المنطقة العربية، فالأحرى مقارنة واقع البحث العلمي في المنطقة العربية مع الواقع ذاته في إسرائيل).
رُبّ معترض أنّه لا يستقيم الحديث عن أفول الإسلاموية والمنطقة تعج بحركات وجماعات إسلامية لا حصر لها، دون الحديث عن نتائج مواجهة الظاهرة الجهادية، ليس في المنطقة العربية وحسب، ولكن حتى في المجال الغربي، أقله المجال الأوربي.
هذا اعتراض وجيه من حيث الشكل، ولكنه اعتراض متهافت من حيث المضمون؛ لأن عدد الأعطاب الذاتية أو البنيوية التي تعاني منها الإسلاموية، لا تبشر بمستقبل زاهر عند أبناء المشروع، وأنّها لم تتوفق في أي تجربة حكم في هذه الدولة أو تلك، كما أنّ خطابها المجتمعي متشبع بأفكار طوباوية ومثالية، أكدت وقائع الساحة أنّ تطبيقها على أرض الواقع كان وبالاً على شعوب وأنظمة المنطقة، من قبيل ما عاينا مع التجربة السودانية التي أفضت إلى تقسيم البلد إلى بلدين، أو التجربة الداعشية وغيرها من التجارب.
ليس هذا وحسب؛ فالعالم الإسلامي لا زال متردداً في الحسم مع أجوبة نموذجية ومصيرية ذات صلة بثنائية السلطة والدين، أو الدولة والدين، بما يُفسر كثرة نماذج الحكم، بتعدد الاجتهادات والتجارب، بين أنظمة رئاسية أو أميرية أو جمهورية أو ملكية وغيرها، وإذا كانت هذه التجارب غير نهائية في تدبير الجواب على تطبيقات الثنائية سالفة الذكر، إلى درجة اشتغال المستشرق الرصين وائل حلاق على كتابة “الدولة المستحيلة” (2012)، فمن باب أولى أن تكون تطبيقات الإسلاموية على الثنائية ذاتها غارقة في الأعطاب.
وليس صدفة أنّ كتاب وائل حلاق هذا تعرض لنقد شديد من قبل الأقلام الإسلاموية بالتحديد، وخاصة الإخوانية، سواء كانت تعلن بشكل صريح عن الانتماء لهذا المشروع أو كانت متأثرة به، بعد مرحلة طلاق نظري وتنظيمي.
على أنّ التوقف عند نهاية الإسلاموية لا يفيد نهاية الدين، وإنما أفول أنماط من التديّن، يُصطلح عليها بالإسلاموية أو الحركات الإسلامية، بينما الدين قائم وأزلي؛ لأنه مرتبط بوجود الإنسان، فطالما يوجد إنسان، يوجد دين، سواء تعلق الأمر بأديان إبراهيمية، أو أديان/ معتقدات وضعية من إنتاج بشري محض.
صحيح أنّ التفكير في نهاية الإسلاموية ما يزال خارج دائرة التفكير عند أغلب أعضاء المشروع، ولكن صدور اجتهادات نظرية من قبيل الاجتهادات سالفة الذكر، لآصف بيات وأوليفه روا، موازاة مع تأمل تطبيقات التجارب الإسلاموية في الساحة، تغذي أحقية الحديث عن أفول الإسلاموية، هذا دون الحديث عن استحضار ما اصطلحنا عليه بالضرائب النفسية والأخلاقية التي تطال أي متديّن يمرّ على تجربة إسلاموية، والتي قد تصل إلى مقام الإلحاد كما نعاين مع العديد من التجارب الفردية في المنطقة، بصرف النظر عن ماهية هذا الإلحاد، كأن يكون إلحاداً دينياً حقيقياً، وهذا أمر نستبعده، أو مجرد إلحاد معرفي ونفسي، وهو السائد والمهيمن بشكل كبير في الحالات التي نعاينها هنا وهناك في المنطقة.
إنّ نهاية الإسلاموية تحصيل حاصل في سياق عام وأكبر عنوانه نهاية الأيديولوجيات الشعبوية، وليست أحداث الساحة محلياً وعالمياً سوى تطبيقات ميدانية لهذا الأفول، والذي يتم تعويضه بالانخراط النظري والعملي في التفاعل مع تحديات عالمية وإقليمية، سواء كانت تهم البيئة (التلوث البيئي، الأبحاث الطبية) أو الأمن (الحروب، التطبيقات الرقمية) أو الدين (الإلحاد، مراجعات العلمانية) أو حقول أخرى.
نقلا عن حفريات
0 تعليق