أحمد مصطفى حلمي
كاتب مصري
من عادة المسلمين في المجتمعات العربية/ الإسلامية، عند مطالعة ما تقترفه الجماعات الإرهابية المسلحة مع غير المسلمين، أن يدفعوا عن الإسلام شبهة المسؤولية عن هذه الجرائم، بخطابات مقتبسة اقتباساً مباشراً من القرآن أو الأحاديث النبوية كنصوص مؤسسة، من قبيل (لا إكراه في الدين) أو (المسلم من سلم الناس من لسانه ويده)، ولكن من أكثر الآيات التي يدفع بها عامة الناس وخاصتهم في خطاباتهم عندما يمس الضرر غير المسلمين لمجرد الاختلاف في العقيدة ـ مثل ما حدث للأزيديين في العراق أو لمسيحيي سوريا والعراق على يد داعش- قوله تعالى (لكم دينكم ولي دين)، وغالباً ما يتم توجيهها كشكل من أشكال الدفاع القصير الواضح أمام أيّ تلميح بمسؤولية الإسلام عن هذه الجرائم، أو كخطاب معلن بقبول الآخر على خلاف المظنون.
لكن ما يثير الانتباه هو عدم قدرة هذا الخطاب على التأثير في معظم السلوك الإقصائي ضد غير المسلمين، والذي يتدرج من التهميش غير المعلن في المجتمعات الآمنة إلى العنف الصريح في النزاعات المسلحة، فلماذا لا يدفع هذا الخطاب المسالم الخطاب التكفيري المضاد؟
إنّ آية (لكم دينكم ولي دين) هي جزء من خطاب أكبر، وهو خطاب السورة المسمّاة (الكافرون) التي هي بدورها جزء من الخطاب القرآني ككل، وفي غالب الأمر عندما يتكلم المسلم مع غير المسلم أو عنه، يتم توجيه خطاب الآية بما ينوب عن خطاب السورة، إلا أنّ اجتزاء خطاب السورة وإضمارها في خطاب الآية لا يمنع من استدعاء خطاب السورة ككل وكوحدة خطابية قصيرة يتم استيعابها بالحفظ في الصغر ـفي الغالب ما يحفظ المسلمون صغار السور في مراحل الطفولةـ واستيعابها بالفهم في مراحل عمرية لاحقة، ومن هنا فإنّ استدعاء خطاب السورة بالتحليل المعمق ضرورة تفرض نفسها كنتيجة لاقتراب حدود الخطاب الممثل بالآية بحدود الخطاب الممثل بالسورة في وعي المسلم كوحدة خطابية متكاملة وشبه مستقلة عن غيرها من الوحدات الخطابية الأخرى في القرآن.
يقول الله تعالى: “بسم الله الرحمن الرحيم، قل يا أيّها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم، ولا أنتم عابدون ما أعبد، لكم دينكم ولي دين”.
تبدأ السورة بآية “قل يا أيّها الكافرون”، يأتي فعل الأمر في أول السورة موجهاً الخطاب إلى النبي، وهو يضع النبي ههنا لا كوسيط لنقل الخطاب، إنّما كمخاطب يقف على قدم المساواة ومن خلفه من يؤمنون بمصدر الخطاب المفارق بفعل الألوهة كطرف، وغير المؤمنين بهذا المصدر كطرف آخر، إنّ وضع فعل الأمر على هذا الشكل ما هو إلا تمهيد للنسق الأسلوبي للخطاب الذي سيبدو موجهاً إلى طرفين متساويين أمام الله (المبعوث من قبل الله في مقابل الكافرين)، طرف يقوده النبي، وطرف كافر في مجمله غير معلن القيادة في الخطاب، طرف على رأسه تاج النبوة، وطرف منعوت بالكفر، وبغضّ النظر عن الدلالة التاريخية لكلمة كفر /كفار /كافرون، فإنّ الكلمة قد اتخذت معنى شائعاً في الخطاب السلفي المعاصر، كمعادل عام لا يفرّق بين غير المسلمين في حالتي السلم أوالحرب، إلا أنّ استخدامها كمعادل لغير المسلمين هو اختيار غير مفضل في خطابات المسلمين من أصحاب التوجهات الإيديولوجية الأخرى، وإن كانت الدائرة الدلالية لهذه الكلمة كعلامة في صورتها المعاصرة لا تكاد تفارق الوعي المسلم بشكل عام وإن أخفته، أقول: إنّ هذا التساوي في الخطاب سيظهر جليّاً في باقي السورة التي تعتمد بشكل واضح على المتقابلات المعبر عنها نفياً وإثباتاً، والمساوية بين الطرفين، مثل: (لا أعبد) في مقابل (ما تعبدون)، (لا أنتم عابدون) في مقابل (ما أعبد) وهكذا إلى آخر السورة، التي تنتهي بآية الخطاب محل هذا العرض (لكم دينكم) في مقابل (لي دين)، هكذا تصدر الآية للتعبير عن حالة التساوي التقابلي بين المؤمنين وغير المؤمنين في الخطاب المعاصر والتي تمتدّ بجذورها إلى أول آية من السورة.
هكذا يبدو من السياق العام للسورة وللوهلة الأولى – بغضّ النظر عن النعت بالكفر في أوّلها كحسم إقصائي- هذه الحالة من التساوي في المقابلة، يتبعها حالة انفصال يهدف إلى التمايز ما بين الإيمان والكفر دون هدر لنسق التساوي ما بين الطرفين، أقول: إنّ هذه الحالة من التساوي الشكلي ستتعارض مع ظاهرة مهمة في السورة، وهو تكرار آية (ولا أنتم عابدون ما أعبد)، إنّ هذا التكرار نظر إليه في الغالب على أنّه من أساليب التوكيد، ولكنّي أرى أنّ هذا التكرار الذي يبدو كأنّه حصار لمركز السورة أو بالأحرى لآية (ولا أنا عابد ما عبدتم) بما يعني أنّ خطاب السورة خطاب مؤسس لمركزية جديدة كبديل عن مركزية الخطاب المضاد، لا تتأتى إلا بحصار وتهميش الكفر ومن والاه والذي يتخذ وضعاً مركزياً في قلوب الكافرين وفي قلب الجزيرة العربية الممثل بمكة وما تعنيه من مركزية مكانية، وهكذا فإنّ خطاب السورة يمنح الإسلام ميزة مضاعفة بالتكرار، وميزة أخرى بالنعت بالكفر لمن خالفه في أول السورة وما يعنيه الكفر من علامة سبق ذكرها، وهي مزايا مضمرة في الخطاب تتقاطع مع حالة التساوي الشكلي كما بينت، وهي حالة طبيعية ومقبولة من دين يؤسس خطابه كبديل أنطولوجي لعقائد أخرى كانت راسخة من قبله وفي المكان نفسه الذي أراده الله مهبطاً للوحي، أمّا أن تستثمر حالة التساوي الشكلي في الآية الأخيرة من السورة كخطاب قبول وتساوي للآخر غير المسلم، فما هو إلا اجتزاء للخطاب الأكبر، وإهدار لسياق السورة أريد به شكل من أشكال غسل اليد من جرائم اقترفها المسلمون ضد الآخر، وهو استخدام فارغ من مضمونه بفعل هذا الهدر في مقابل خطابات تكفيرية أشدّ اتساقاً مع مرجعيتها النصية من حيث ظاهر الدلالة، حتى وإن أغفلت عن قصد تاريخانية الخطاب القرآني وسياقاته المختلفة، وهو ما حدا بخطاب (لكم دينكم ولي دين) أن يكون خطاباً مضادّاً غير فعال ضد الخطاب التكفيري السائد.
نقلا عن حفريات
0 تعليق