بعيدا عن لغة الخشب ومخزون الشعارات الفارغة، فإن الحقيقة الساطعة اليوم في الشرق الأوسط هي بداية تفكك المحور الإيراني، المعروف إعلاميا “بمحور المقاومة” فبعد هزيمة إيران المذلة في لبنان، ها هي تخرج صاغرة من سوريا بعد سقوط نظام الأسد، وهو السقوط الذي ساهمت إيران إلى جانب روسيا في تأجيله منذ سنة 2012 عند إندلاع الثورة السورية، الحقيقة شبه الغائبة في النقاش اليوم هي أن الضربات المؤلمة التي تلقتها إيران وحلفاءها في لبنان من إسرائيل، هي التي غيرت موازين القوى في المنطقة، وهي التي جعلت عمليا من نجدة النظام السوري والحيلولة دون إنقاده أمرا مستحيلا كما حصل بعد اندلاع الثورة السورية، فحزب الله يضمض جراحاته بعد الهزيمة الاستراتيجية التي مني بها بعد حربه الاخيرة ضد إسرائيل، وروسيا منشغلة بالحرب الأوكرانية، وإسرائيل وتركيا تعملان بدون كلل منذ سنوات من أجل تغيير النظام في دمشق.
الأحداث الأخيرة في سوريا أعادتنا إلى لحظة 2011، سقوط الأنظمة الاستبدادية في المنطقة وما رافقتها من أجواء غارقة في الحلم بإنبثاق أنظمة ديمقراطية تعقب الربيع، غير أن النتيجة كانت صادمة، والربيع تحول خريفا، ودخلت العديد من تلك البلدان في نفق مظلم لم تخرج منه إلى اليوم، فمعظمها مازال يجاهد كي يستعيد أبسط مقومات الدولة، لقد أكدت تلك الأحداث أن الثورة تأكل أبناءها، وأن التيارات الدينية التي وصلت للحكم على ظهر نضالات الشباب العربي و المدعومة من بعض الفضائيات المتعطشة للفوضى، لا تستطيع بناء أنظمة ديمقراطية بديلة للأنظمة الاستبدادية التي أطاح بها ” الربيع”.
ما ينتظر سوريا أخطر مما واجهته في الماضي، ونظام الجولاني لن يكون أرأف بها من نظام البعث، والتاريخ بيننا، زد على ذلك أن سوريا اليوم أصبحت مستباحة، فسقوط النظام السريع كان بفعل تفاهمات دول معروفة، ولكنه جاء كنتيجة مباشرة للإنتصارات العسكرية الإسرائلية، لقد وقف رئيس وزراء إسرائيل يومين بعد 7 أكتوبر، وقال سوف نغير الشرق الأوسط، وها نحن نرى أنه يفي بوعده، وهو الذي وقف قبل يومين فوق هضبة الجولان، كي يعلن عن إحتلال المنطقة العازلة، الفاصلة بين الجولان السوري المحتل وإسرائيل.
لقد كان مشهدا تاريخيا رؤية السوريين، وهم يقتحمون السفارة الإيرانية في دمشق، ويمزقون صور نصر الله وقاسم سليماني ورموز ما يسمى “محور المقاومة”، لن ننسى أيضا أن بشار الأسد هو الذي إتهم قادة حماس بأنهم ناكروا الجميل لأنهم رفضوا الاصطفاف معه في مواجهة شعبه الذي خرج يطالب بالديمقراطية والحرية، قبل أن يواجهه الجيش العربي السوري بالرصاص والقنابل و البراميل المتفجرة والإعدامات في واضحة النهار.
إن سقوط نظام الأسد يعني فعلا نهاية نظام إستبدادي عسكري دموي، قام على القمع وسلطة الجيش ونظام حزب البعث الوحيد وتأليه الحاكم، لكنه يعني أيضا أن ما كان يسمى بمحور المقاومة بدأ للتو في التفكك، ومحور “المقاومة” هو إسم أطلقته إيران على ميلشيات وأحزاب وحركات سياسية هي فعلا ضد إسرائيل، ولكنها وهذا هو الأساس ظلت أدوات في خدمة المرشد الأعلى، وتحت تصرف النظام الإيراني الذي ظل هدفه الأساس هو خدمة مصالحه الإقليمية، وليس تحرير القدس الذي أوجد لها فيلقا حمل إسمها لسنوات، و النتيجة ان هذا المحور لم يقدم نتائج ملموسة في سبيل تحقيق المطالب العادلة و المشروعة للشعب الفلسطيني.
هل كان هجوم 7 أكتوبر خطأ إستراتيجيا للحركات الموالية لإيران؟ بل هل نملك حتى طرح هذا السؤال في فضاء غارق في الشعارات، وفي المزايدات بل أحيانا في المتاجرة بالقضية الفلسطينية، لاسيما لدى التيارات السياسية الدينية التي لم تتوقف منذ نشأتها عن إعتبار “الدفاع” عن فلسطين موردا من موارد المشروعية السياسية لوجودها، وآلية إستثنائية للتعبئة التنظيمية، طبعا هذه القراءة تستحضر بكل ألم المعاناة الإنسانية المؤلمة في غزة ولبنان حيث دفع المدنيون الأبرياء، وزر حرب لم يستشاروا في خوضها، حرب فرضت عليهم فرضا، ولكنها كانت نكبة أخرى، ونكسة حقيقية للقضية ولعدالتها.
العالم مقتنع اليوم أن دوامة العنف لا يمكن لها أن تتوقف دون وقف فوري لاطلاق النار و إستئناف العملية السياسية، ودون حل الدولتين، ودون تمكين الشعب الفلسطيني من حقوقه التي أقرتها الشرعية الدولية وقبل كل ذلك دون ما أسماه جلالة الملك في خطاب عيد العرش الأخير ” قطع الطريق على المتطرفين ، من أي جهة كانو”، والظن أن تحجيم النفوذ الإيراني في المنطقة، من شأنه أن يساهم في إحلال السلام بدل هذا الدمار المؤلم واللاإنساني.
0 تعليق