أدب وثقافة – الرد بالكتابة.. ثورة التحرير في الرواية الجزائرية الحديثة..
شكرا لمتابعتكم خبر عن أدب وثقافة – الرد بالكتابة.. ثورة التحرير في الرواية الجزائرية الحديثة..
تتسع الرواية الحديثة لمساءلة التاريخ وإعادة تمثيله، وفق ما تتصوّره المخيلة الروائية التي تجتهد في ملء الفراغات وترتيب الوقائع، وتقديم إضافات وتفسيرات وتمثيلات قد لا تقدمها المصادر التاريخية. وإلى جانب وعي المساءلة والمراجعة تطمح الأعمال الروائية التي تتشابك مع التاريخ إلى إعادة تجسيده وإحيائه مع ما يحمله من قيم ومن معان يراد لها أن تنتقل من الماضي إلى الحاضر، أي أن الأحداث والشخصيات الماضوية تتحول إلى ضرب من الراهنية والحضور الدائم، عبر تحويلها إلى معان باقية وخالدة.
وتعد ثورة التحرير الجزائرية “1956-1962” مثالا تاريخيا حيا على تجربة عريضة من تجارب المقاومة الشعبية الممتدة، ولا تزال حتى اليوم تجربة مؤثرة في الحاضر الجزائري والعربي والعالمي، وقد تفاعل الأدب بمختلف أجناسه مع هذه التجربة المؤثرة وما زالت حتى اليوم موردا مهما من موارد الكتابة الأدبية في داخل الجزائر وخارجها. وربما يصح أن نعد الإلمام بها من أهم مداخل التفاعل مع المجتمع الجزائري ومع أدبه وثقافته وتاريخه.
ويمثل اهتمام الرواية المعاصرة بثورة التحرير جانبا حيويا من اجتهاد الرواية في الرجوع إلى أوراق الثورة وشخصياتها ومفاصلها الكبرى وأزمنتها وأمكنتها ومحاولة صياغة سردية تجمع العناصر معا في مجموع يمثل شكلا من أشكال الصيرورة، والمآل الذي آلت إليه أحلام الثورة وتطلعاتها ومعانيها المتجددة.
وبشكل مجمل فإن ثورة التحرير وما ورثته من مراحل المقاومة والكفاح، هي السردية الكبرى للجزائر الحديثة، وهي الحدث المؤسس والمحوري الذي لا يكاد يغيب عن الرواية الجزائرية، إلى جانب روايات عربية وعالمية كثيرة، تناولت جوانب من هذه التجربة الطويلة في مواجهة قوة الاستعمار الغاشمة.
وهي إلى ذلك مثال حيّ من أمثلة المقاومة والتحرر والكفاح الطويل، قدّمت بالدم والتضحية طريقا مضيئا إلى الحرية، وأجبرت المستعمِر على تفكيك وجوده، والرحيل عن أرض الجزائر بعد 132 عاما من أعوام الاحتلال والاستغلال، ومعلوم -كما شهِد فرانز فانون- أن “حرب الجزائر أشدّ هولا من أي حرب خاضها شعب لتحطيم الطغيان الاستعماري”[، ولكنها -على قسوتها وطولها- تعطينا درسا بقِصر عمر الاستعمار مهما طال، وبأن الغزاة لا بد راحلون مهما كان عسفهم وقوتهم.
كما يمكن القول إن كتابة الرواية المتعلقة بحقبة الاستعمار الطويلة، وبأحداث الثورة في سنيّها السبع السمان، وما تبعها في مرحلة دولة الاستقلال، من منظور جزائري، هي أحد أهم أشكال “الرد بالكتابة”، بعدما امتلك المستعمَر إمكانات الكلام، أو بالأحرى انتزع حقه انتزاعا، ذلك أن محاولة إسكات صوته وخنق تعبيره، ليس إلا محاولة استعمارية تضمنت حربا على اللغة وعلى امتداداتها الأدبية والفكرية والعلمية، فكتب الروائيون الجزائريون بالعربية أو حتى بالفرنسية لغة المستعمِر، لغة المنفى وفق مالك حداد، أو غنيمة الحرب بتعبير كاتب ياسين[.
ويمكن أن نضم إلى الرواية مختلف أنواع الكتابة الأخرى المتصلة بالثورة وبمقاومة الاستعمار، سواء الأنواع التقليدية كالشعر والمسرح والقصة القصيرة، أو الأنواع السيرية والتوثيقية كما في أدب المذكرات واليوميات لبعض قادة الثورة وشهودها، وكذلك محاولات بعض الكتاب والمؤرخين الإفادة من التاريخ الشفوي الذي يستند إلى شهادات الشهود، وصولا إلى السينما والرسم والتصوير والبحث في سجلات الأرشيف والمتحف وما يمكن الوصول إليه من تقارير وكتابات وسجلات خاصة بالأحداث الجزائرية، وإمكانات توظيف هذه الوثائق والشهادات في أنواع أدبية وفنية مختلفة في صورة مسار مرشح للاتساع والعمق في ظل النظر إلى الثورة بوصفها الحدث الأكبر في التاريخ الجزائري الحديث.
وفي مدونة الرواية الجزائرية روايات كثيرة قصدت إلى تمثيل ثورة التحرير ومراحل المقاومة التي سبقتها، ومن أمثلتها: رواية “اللاز” للطاهر وطار، ورواية “ريح الجنوب” لعبد الحميد بن هدوقة، ورواية “تفكك” لرشيد بوجدرة، ورواية “ما لا تذروه الرياح” لمحمد العالي عرعار، ورواية “كولونيل الزبربر” للحبيب السائح، ورواية “رأس المحنة” ورواية “حوبة ورحلة البحث عن المهدي المنتظر” لعز الدين جلاوجي، ورواية “شوينغوم” لأمين الزاوي، ورواية “سفر أعمال المنسيين” لعبد الوهاب عيساوي، ورواية “نهاية الصحراء” لسعيد خطيبي، ورواية “خيام المنفى” لمحمد فتيلينة، إضافة إلى رواية “كتاب الأمير مسالك باب الحديد” لواسيني الأعرج التي استعادت شخصية الشيخ عبد القادر الجزائري الذي قاد المقاومة في المراحل الأولى للاستعمار، ومثل شخصية قيادية ورمزية في التاريخ الجزائري.
وبصرف النظر عن منظور الروائيين للثورة وطريقة مراجعتهم لها وتقديمهم لبعض تفاصيلها التاريخية والمتخيلة، فإن القيمة الكبرى لهذا الضرب من التمثيل تتجلى في التأكيد على أن ثورة التحرير بكل تعقيداتها ووجوهها هي أحد ينابيع الكتابة ومواردها التي لا تنضب، إلى جانب دور هذا التمثيل الأدبي في تخليد الثورة وشخصياتها وأحداثها، وتوسيع دائرة الاهتمام بها. والبحث عن بعض التفاصيل المهمشة أو المسكوت عنها، تلك التفاصيل التي ربما تضمنت إضاءات جديدة، وسمحت بقراءات غير مألوفة لبعض ما نعرف من تفاصيل التاريخ.
رواية “كولونيل الزبربر”: رواية الذاكرة والهوية…
وسوف نتناول نموذجا محددا يتمثل في رواية “كولونيل الزبربر”للحبيب السائح، التي نشرت عام 2015، وتميزت بعدة ميزات فنية ومضمونية تجعل منها علامة أساسية في تناول ثورة التحرر وفي تجسيد التاريخ الجزائري الحديث قبل الاستقلال وبعده وصولا إلى العقد الأول من الألفية الجديدة.
يمكن أن نعدّ هذه الرواية من روايات الذاكرة والهوية، بما فيها من استناد على التاريخ كمرجع ثقافي جامع، وليس كمستودع أحداث، ذلك أن كثافة الحدث وقوته ودراميته تتأتى من دلالته ومن طريقة سرده وتقديمه.
تستند الرواية بوجه عام على الأحداث الكبرى في تاريخ الجزائر، وبوجه خاص على مرحلتين أو تجربتين، الأولى مرحلة ثورة التحرير “1956-1962.
والثانية مرحلة العشرية السوداء أو حقبة الإرهاب في تسعينيات القرن الماضي، وبين المرحلتين نشوء دولة الاستقلال والانتقال من مرحلة الثورة إلى مرحلة الدولة.
وإذا كانت هذه المراحل والأحداث توحي بالطابع التاريخي للرواية فإن التاريخ في حالتها ليس إلا خلفية ومرجعا، ولكنها ليست رواية تاريخية بالمعنى التوثيقي والتمجيدي، ذلك أنها لا تقصّ تاريخ هذه الأحداث المؤثّرة قصّا متتابعا مفصّلا، ولا تتقصّد تمجيد الأحداث وصانعيها ونتائجها، وإنما اختارت سبيلا آخر، ينسجم مع ما تسمح به الرواية الحديثة من مساءلة ونقد وتحليل، كما أن شخصياتها الرئيسة شخصيات متخيلة لم توجد في التاريخ، وإنما شكّلها الروائي واشتقّها على هيئة شخصيات تخييلية توحي بالتاريخ، وتتقاطع فيما تعرضه وتسرده مع شخصيات تاريخية، فهي بذلك خليط من الشخصيات التخييلية والشخصيات التاريخية، وإن كانت الأولى هي الأشد قوة وحضورا، وإلى وجودها نتردد في وصف الرواية أو تصنيفها ضمن صنف “الرواية التاريخية”.
ولذلك يمكن القول إن التاريخ الذي تسترجعه الرواية يرد في موضع المساءلة والمراجعة، ولا تخفي الرواية نبرتها الناقدة من خلال شخصياتها التي تمثل عدة أجيال في أسرة جزائرية ذات توجهات وطنية لا تخفى.
وفي إيضاح سياق كتابتها ودلالتها يمكن الاستعانة بقول موجز لمؤلفها: “لم نكن في الجزائر قبل بداية أحداث “المحنة الوطنية” نكاد نعرف شيئا عن جبل الزبربر خلال حرب التحرير رغم حمولته التاريخية، ذلك لأن جغرافيا تلك الحرب -كما تاريخها- لا تزال بكرا. رواية “كولونيل الزبربر” إذًا لا تدّعي تعويضا، إنها تبغي فقط أن تقول إن هناك ذاكرة جغرافية أيضا. فمن المفارقة التاريخية أن يتحول “الزبربر” منذ عام 1992 إلى أحد أهم معاقل الجماعات المسلحة، بعد أن كان أهم فضاء لكتائب جيش التحرير الوطني ما بين عامي 1954 و1962.
أما تتبع هذه المفارقة التي فجّرتها “ذاكرة الجغرافيا” فقد أنجزته الرواية من خلال أجيال الأسرة التي تتبعت الرواية حياتها وسيرتها في النصف الثاني من القرن العشرين، واختارت تقنية سردية تسمح بجمع هذه الأجيال معا، تتمثل في مبدأ المذكرات والوثائق التي كتبها الجد وأورثها لولده من بعده، وقرأها الجيل الثاني وأعمل فيها إضافاته وهوامشه وملاحظاته وتعليقاته، كما أضاف إليها شهادته في مرحلة مواجهة الإرهاب، وسلّم هذه المادة الثمينة والإرث التذكاري الذي انشغل طويلا بمحاورته وتأمله والإسهام في كتابته إلى الجيل الأخير المتمثل في ابنته “طاوس” الطبيبة الثلاثينية التي تطلّب منها عملها الانتقال إلى قرية “زقان” في ولاية أدرار بعيدا عن العاصمة التي ولدت فيها وعاشت فيها عقودا مع أسرتها ووالدها.
أما أصل الأسرة فيعود حسب المتخيل الروائي إلى الريف الجزائري، وبوجه خاص إلى قرية الحاكمية القريبة من مدينة سور الغزلان بولاية البويرة، ربما في إشارة إلى إسهام الريف في الثورة وأنها ولدت في الأرياف والجبال والغابات والصحراء، قبل أن تنتقل إلى المدن الرئيسية التي تأخرت ثورتها لأسباب متعددة. وهكذا يمثل الجد الجيل الأول، جيل الثورة والمقاومة، والأب “الملقب بكولونيل الزبربر” يمثل جيل الاستقلال وجيل مواجهة الإرهاب فيما بعد، والابنة طبيبة الأطفال تمثل جيل الشباب الذي يعاني من إرث الاستقلال والإرهاب معا في الألفية الجديدة.
لا تحضر الأجيال منفصلة في الرواية على طريقة الرواية التاريخية، أو حتى رواية الواقعية المألوفة، وإنما ترد متداخلة من خلال اجتماعها على المادة المكتوبة وما تثيره من مقاربات وتذكارات في إطار سيرة الأسرة الصغيرة والكبيرة معا. وتؤثر التقنية السردية المختارة بعناية وقوة في تلقي المادة كلها، إذ لا يغيب عن القارئ أن الجيل الجديد يراجع التاريخ ويتعرف عليه ويشارك في مساءلته وفي تبين وجوه صوابه وأخطائه.
سيمياء العنوان والأسماء والكنى…
تحمل الرواية عنوان “كولونيل الزبَرْبر” وفي ضوء القراءة نجد أن هذه العبارة لقب عرف به الوالد، جلال الخضري، وهي تتكون من اسم معروف لرتبة رفيعة، باللغة الفرنسية والإنجليزية، ولكن إضافتها إلى “الزبربر” وهو اسم جبل بعينه تكسبها وقعا محليا، مثلما تكسبها قوة ومكانة، عبر دلالة الرتبة العسكرية العالية ودلالة الجبل، بما فيه من معنى الصلابة والقوة والارتفاع.
وفي سياق الرواية نتبين أنها قدّمته بوصفه ضابطا شريفا، نشأ وكبر في عهد الاستقلال، في ظل والده المجاهد الذي حرص على تنشئته وعلى أن يتعلم ويتكون في المدارس العسكرية، وليكون مصيره في الجيش، كأنما ليتمم مسيرته والده الذي انزوى وابتعد عن مسار السياسة نهائيا في عهد الاستقلال. ولم يكن حريصا على أية حصة إلا من خلال استفادة ابنه من ظروف ما بعد الاستقلال. ومن ضمن إنجازاته أنه أسهم في ضرب الجماعات الإرهابية وتبديد وجودها بعدما تحصنت ونشطت في جبال الزبربر، ولكنه تمكن من اختراق تحصيناتها وهزيمتها، دون أن ننسى فقدانه لابنه “ياسين” الجندي أيضا في حرب الإرهاب نفسها.
أما والده مولاي الحضري، فحمل بدوره لقبا مميزا، ولد لقبه “بوزقزة” في ظل ثورة التحرير، تقول طاوس: “مولاي الحضري الأب الذي سأكون حفيدته، رجع إلى البيت العائلي في قرية الحاكمية غير البعيدة عن مدينة سور الغزلان “أومال سابقا” بكنية “بوزقزة”. كنية صرت أعرف أن جدي قلد إياها خلال حرب التحرير نسبة إلى الجبل الصخري ذي اللون الأزرق: زقزة، كما في اللغة الأمازيغية. ثمة في مرتفعاته كان حقق ضمن “كومندوز عز الدين” وكتائب الولاية الرابعة نصرا فائقا على مظليي الجيش الاستعماري في شهر أوت (أغسطس/آب) 1957.
والكنيتان كنية الجد والأب تلتقيان في دلالتهما الجبلية، وما تحمله من دلالات القوة والصمود. إنها إذن كنى مميزة تدل فيما تدل على هوية مقاومة صامدة حملتها هذه الأجيال المتتابعة.
وتمتد هذه الهوية المقاومة لتشمل فيما نرى الإنسان والمكان معا، أي أن عبقرية المكان في طبيعته المقاوِمة، وفي امتلاكه طاقات مقاوِمة تعين الثائر والمحارب، وتجابه المعتدي والمستعمر. ولقد اعترف الغزاة أنفسهم بمشاركة الأرض والجغرافيا الجزائرية في مواجهتهم، ولذلك لم تسلم منهم عندما طردتهم ورفصت استمرار احتلالهم، فلجؤوا إلى سياسة الأرض المحروقة التي تدل على وحشيتهم ورغبتهم الدفينة في الانتقام من الإنسان والمكان. يقول واحد من قادتهم في تلك الحقبة: “إن سكان هذه المناطق صورة من الأرض التي يقيمون بها: شديدو المراس، غلاظ الطباع، غير متشربين لفكرة فرنسا… إننا نواجه 3 أعداء في آن واحد: الجبال والغابات والسكان.
وهي حقا صورة مقاوِمة عبرت عنها الرواية بحدب الجغرافيا على الثوار، وبعنفها في مواجهة الغزاة المستعمرين.
إن اللقب الذي اكتسبته الشخصية نتيجة عملها المقاوم وبسالتها يتجاوز الوظيفة الاعتيادية للتسمية، ليغدو علامة سيميائية أيقونية الطابع، تتجسد فيها صورة الجبل، إنها أيضا لون من ألوان الهوية التي تتلبس المرء ويتلبسها، وحتى بعد انتهاء زمنها وراهنيتها فإنها تستمر بوصفها ذاكرة حية وباقية، تذكر دوما بأصل إطلاقها واكتسابها الذي لا يبدو -على تلقائيته وشعبيته- هينا أو ميسورا.
تتأمل الرواية ثقافة الألقاب والكنى التي يتميز بها المجتمع الجزائري، وتقلّبها على وجوهها في صورة من صور التمرئي والميتاسرد، بما يسمح بإشباع الدلالة وتثبيتها وإزاحة النسيان وإبعاده عنها، وهكذا تستعيد طاوس تأملات والدها جلال الخضري المعروف بكولونيل الزبربر، في كنية والده، وتفكر بدورها في مصير الكنى ودلالاتها: “إن كنية بوزقزة التاريخية، مثل بقية الكنيات الأخرى، قد سلب النسيان زمن الحرب إياها. نسيان جرّد أيضا جنود التحرير من ألقابهم وألبستهم وأسلحتهم وصورهم وآثار مسالكهم ومواقع معاركهم وأمكنة استشهادهم، ومما كان من خالص حياتهم في أقسى ظروف الاحتمال البشري لاستعادة أرض الآباء، ألذا أفرد الوالد كولونيل الزبربر صفحة المدخل لهاتين الكلمتين: “مقاومة للنسيان.
نسيج اللغة وتوظيف المحْكية والشعر الملحون..
نسج الحبيب السائح روايته بالفصحى المبسّطة والمعاصرة، مع عنايته بدقتها وجماليتها واستقامتها، فهي لغة سردية قادرة على أن تنقل الحدث والحركة، مثلما هي قادرة على تمثيل الماضي والحاضر، وهي قادرة على نقل الأفكار والمواقف التي لا بد من تمريرها في رواية بارزة من روايات ما بعد الاستعمار، بكل ما يقتضيه ذلك من تدبير لغوي وفني.
وتأتي اللهجة المحكية ومقاطع الشعر الملحون في هيئة تنويع لغوي يتخلل النسيج اللغوي العام، ولا ترد هذه البقع العامية لتؤدي دورا فلكلوريا أو موروثا شعبيا فحسب، وإنما تتجاوز ذلك لتكون لونا من ألوان حياكة النسيج الهوياتي وتمتينه في الرواية، ذلك أن للكلام المنطوق والكلام المكتوب الذي يمثله بصمة مؤثرة، تعبّر عن قوة الكلمة المنطوقة، وعن الإنسان والجماعة الناطقة بها، ولكل جماعة بصمتها اللغوية، بل لكل شخصية بصمتها كذلك، خصوصا في حالة هذه الشخصيات الدرامية صاحبة الأدوار المؤثرة. يقوم الكلام المحكي واللهجي إذن بعدة وظائف من أهمها وظيفة التعبير عن الهوية، وإعلان التمسك بها، والإعلان عن وجودها الحتمي. هذا المستوى الذي يشرئبّ فيه المكتوب لعله يفي بمقتضيات تمثيل المنطوق، لهجة ونبرة وثقافة ومعنى.
وقد اختار المؤلف أن يختتم فصول روايته بلون محدّد من الشعر الملحون، وذكر في أول اقتباس من هذه القصيدة أنها “قصيدة من الشعر الشعبي “الملحون” مشهورة في الجزائر. تنسب إلى أكثر من شاعر أشهرهم: لخضر بن خلوف. وقد أقفل كل فصل من فصول الرواية ببيت من أبيات هذه القصيدة، لتمثل دوما قفلة شعبية محكية، تذكر بالشعب وهويته وصوته، مثلما تمثل ضربا من الإيقاع المتكرر الذي يمكن للقارئ أن يردده ويتريث عنده، ويربط معناه بما تحيل إليه الرواية نفسها. وأول اقتباس هو البيت:
الملابس بوصفها علامات ثقافية..
احتفت الرواية بالملابس ضمن تأثيثها لفضائها، فـ”البرنوس” ارتبط بالجد، بوصفه لباسا تراثيا ربما يميز الجيل القديم من المجاهدين. وأما جلال أو كولونيل الزبربر فقد احتفظ ببرنوس الجد كإرث ينبغي الحفاظ عليه، وكان بعد تقاعده أو خروجه من الخدمة يلجأ إلى بزته العسكرية ليستعيد من خلالها ماضيه وهويته العسكرية، ومقاومته للإرهاب.
وتصف الرواية على لسان الراوية “الابنة” هذا المسلك: “… ومن حوش واسع يغطي ثلث المساحة داخله الجنينة، حيث يجلس صيفا إلا نادرا، تحت شجرة مسك الليل تنتظر دائما تخييم الظلمة كي تنثر عطرها، لابسا غالبا بزته الرسمية: ميراثه من وزارة الدفاع، فإنه ما حل عليه الخامس من “جويليه” (يوليو/تموز) إلا ظهر بها وبِشارة الرتبة، كما الآن في هذه الذكرى الخمسين، كما في مهمّة أو اشتباك مسلح… هكذا من غير تفلسف عن السبب: أي رغبة في أن يظهر بها لمن قدموا دمهم فدية لتستمر الجزائر فتطمئن أرواحهم السابحة في الأثير فوق رؤوسنا.
تكرر هذا السلوك في الرواية سواء من خلال إعادة سرد الحدث نفسه، أو أحداث مشابهة له، فإذ تحل ذكرى التحرير، أو ذكرى الاستقلال فإن الرواية تقدم احتفالية الكولونيل الخاصة بمثل هذه الأحداث: “ففي ذكرى أول نوفمبر الماضية، خرج كولونيل الزبربر كما عادته، في الدقيقة الأولى بعد منتصف الليل لابسا قشابيته وأطلق من مسدسه سبع طلقات في الهواء. وها هو في ذكرى الخامس جويليه (يوليو/تموز) هذه يلبس بدلته العسكرية الميدانية ليوم كامل. إنه يعاود لنفسه جهرا، بمرارة مسحوق العرعار في حلقه: حرب تحرير بقسوتها وفظاعتها وآلامها وثمنها، لا يكتب تاريخها جبناء. ردا على باية إذ كانت قبل 8 سنوات انشغلت له: ها هو نصف قرن يمرّ على أول نوفمبر ولا شيء كتب.
الحرب النفسية والآثار النفسية للحروب….
وقفت الرواية على دور فئات مساندة مهمة مثل الأطباء والعاملين في القطاع الصحي والمعالجين النفسيين، كما في إضاءة شخصية الطبيب “الطاهر سنوسي” الذي زوّد مولاي الحضري أو بوزقزة ببعض المذكرات والوثائق التي ضمّها إلى أوراقه، وورّثها لولده جلال الحضري، يمثل هذا الطبيب أحد شخصيات المتعلمين ممن عرفوا موقعهم، رغم تعليمهم الفرنسي، وارتباطهم في مرحلة التعليم والعمل بالمؤسسات والإدارات الاستعمارية، فها هو يصل إلى موقع المجاهدين لمعالجة جرحاهم، بترتيب محكم لا يؤدي إلى اكتشاف دوره، ومن خلال الحوار الطويل مع بوزقزة يتبين لنا دوره ودور أمثاله في مساندتهم للثورة وجلبهم للدواء ومعالجتهم الجسدية والنفسية للمصابين، يقول الطبيب للمجاهد بوزقزة: “كان علي أن أختار موقعي”. ويقول أيضا: “الطب في حرب تحرير كهذه لا يقل أهمية عن السلاح، والطبيب في خضمها يمنح الثقة في شرعيتها.
وتعرض الرواية بدقة وانتباه بعض ما يعرض من آلام نفسية هي بعض نتائج الحرب وكوابيسها وأمراضها، فهناك “حالات الهذيان والصرع والهوس والاكتئاب. هذا جندي لم يفتأ لأيام يردد في غفواته كلمات مضطربة وينطق بما لا يراه إلا هو من صور مشوشة: دم، دم، ذبحوه. انهض.. يا كلب. سيقتلني. اهرب. الوادي، الوادي، حامل.
وهناك حالة الجندي عادل، ممن وصفت الرواية حالاتهم كأمثلة على هذه الإصابات النفسية الجسيمة، فالجندي إنسان يعرض له رغم تكوينه النفسي القوي ما يؤلم وما يخرجه عن الأوضاع الطبيعية، عادل اغتصبت أمه وذبحت وهو في الـ15 أمام عينيه، وقتل والده في دفاعه عنها أيضا. هذه صورة مركبة لبعض أفعال المستعمر، ولآلام الحروب، وهي في الوقت نفسه أكبر مسوغ لنشوء حركات التحرر، والمقاومة للرد على أفعال المستعمر وجرائمه. يظل عادل في كوابيسه يعود للحدث المؤلم نفسه. وتظهر الرواية من خلال هذا الفصل الطبي والنفسي وعي قادة الثورة في التعامل مع هذه الحالات المستعصية من الاضطراب النفسي الناشئ عن الحروب وآثارها.
ومؤكد أن مثل هذه الوثائق النفسية لم يسجلها التاريخ تسجيلا وافيا فيما سجل، وبالإمكان أن يشبعها التخييل الروائي، ويجد فيها مجالا واسعا لاستكمال صورة تأثيرات الحرب، استنادا إلى الوثائق والدراسات والمقالات النفسية، ومن ذلك بعض كتابات “فرانز فانون” الذي أولى هذا الجانب اهتماما لا يخفى نظرا لكونه طبيبا وشاهدا على آلام الجنود والمحاربين في ميادين القتال. الرواية اليوم مطالبة بتوسيع مثل هذه الجوانب ليس لإعادة إنتاج الآلام ولكن لتترك وثائق للأجيال، ولإيضاح بعض ما أنجزته ثورة التحرير في مقاومتها الباسلة فليس الأمر محصورا في جبهة واحدة.
معجم الحقبة الاستعمارية ومعجم الثورة..
لا شك في أن كل مرحلة تنتج خطابها، مثلما تنتج نصوصها، ومن ضمن ذلك في مستوى المفردات والعبارات الاصطلاحية استعمال معجم خاص بمقدوره أن يدلل على تلك المرحلة، ولقد استعملت رواية “كولونيل الزبربر” في لغتها مفردات وعبارات اقتضى كثير منها شرحا لمعانيها في هوامش الرواية، فكأن الروائي والقارئ محتاجان إلى معجم يجمع ويوضح ويؤصّل هذه الكلمات، كما يمكن أن تكون مثل هذه الألفاظ والتعبيرات مقصدا للباحثين في بعض المجالات المعجمية لجمع ألفاظ الاستعمار وما بعده، مستفيدين مما وثقته الرواية وغيرها من المدونات السردية، ليس بقصد الاحتفاء بها، وإنما للإبقاء عليها دليلا على ما تخبئ من معان ودلالات تبقي جانبا حيا من التاريخ، إلى جانب ما تختزنه من أنساق ومن عنف لغوي يدلل على عنف الاستعمار نفسه.
ومن هذه الألفاظ على سبيل المثال: الأقدام السوداء، الفلاقة، مشتة، المسبّل وجمعها المسبلين، حركي وجمعها حركى، الكولون، والمعمّرين، الزرقان، الشوافين “استطلاع واستخبار”، القومية، المحتشَد وجمعها محتشدات وغيرها من الألفاظ التي شاعت في الحقبة الاستعمارية، ولا بد من استعمالها في الرواية المتعلقة بمثل هذه الحقبة استكمالا لعدتها السردية، وللدلالة على البيئة التي تصورها.
أما مصطلح “الأقدام السوداء” فمصطلح خاص أو عبارة اصطلاحية مسكوكة تعبر عن فئة الأجانب ممن سكنوا الجزائر في ظل الاستعمار، وولد بعضهم فيها وعاشوا حياتهم في البيئة الجزائرية بصورتها الفرنسية. فهو على هذا تعبير استعماري صريح، يُظهر قدرة اللغة على سك التعابير المناسبة لمدلولاتها. ورد شيء عن هذه الفئة في رواية “كولونيل الزبربر” في سياق الحديث عن شخصية قايد بن عمر، الذي يتولى مهمات خاصة في مجموعة “بوزقرة”: “لكونه يملك قدرة استثنائية على الانسلال من رقابة العسكر وعلى مغافلة المخبرين كعفريت يتلون ويتموه لا يحمل أي سلاح حيطة بينه وبين الفصيلة كي لا يكتشف في حال توقيفه فهو يدخن ويخمر من حين لآخر لدرء الشبهة عنه ويتكلم الفرنسية لحيازته الشهادة الابتدائية بلكنة الأقدام السوداء الذين يدوّرون حرف الغين إلى راء ويتحرك في محيط يعرف تفاصيله كما جيبه”.
ويعرف هامش الصفحة الأقدام السوداء بأنهم “خليط المدنيين المهاجرين من الأوروبيين خاصة الفرنسيين والإسبان والإيطاليين والمالطيين واليهود الوافدين الذين استوطنوا الجزائر خلال الاحتلال (1830-1962).
وأما كلمة “القومية” الواردة في الرواية فهي كلمة “أطلقها المستعمر على المجندين الجزائريين الذين كانوا في صفوف قواته، ليحارب بهم جيش التحرير الوطني. وتشير المصادر إلى أن كثيرا منهم هربوا من قوات الاستعمار وانضموا لجيش التحرير، خصوصا بعد إعلان الحكومة الجزائرية: و”قام “جنود القوم” على إثر إعلان الحكومة الجزائرية بانضمامهم بكثرة، وصفة موالية ومخالفة للعادة، للثورة. قال المجاهد عمر الصديق: وعندما سألناهم عن الدافع الذي بعثهم إلى الانضمام إلينا عرفنا أنهم كانوا قبل إعلان الحكومة يشعرون أنهم على هامش الشعب ويحسون بمأساة داخل ضمائرهم. أما بعد إعلان الحكومة فقد أصبحوا يشعرون أنهم متمردون على السلطة الناظمة.
وإذا كانت بعض هذه الألفاظ واضحة لغة وسياقا، من مثل لفظة المجاهد والمجاهدين، فإن ألفاظا أخرى تحتاج بعض الإيضاح، مثل لفظة المسبّل وجمعها مسبّلون/مسبّلين. وجاء في الرواية في سياق الحديث عن غنائم غنمتها فصيلة بوزقزة، وبعد تعداد الأسلحة وأنواعها تقول الرواية: “فإن قادة أفواج فصيلته كانوا أجمعوا على استبدال تلك القطع بما لدى الجنود من أسلحة غير متطورة، أعادها للقيادة التي كانت توزّعها على المسبّلين والفدائيين”. وإذا راجعنا التركيب الرسمي لجيش التحرير وجدنا تقسيما للقوات وتسميات خاصة للدلالة على المنضوين تحت إمرته، منها هاتان الفئتان إلى جانب فئة المجاهدين”، ووفق التركيب العام لجيش التحرير كما قرره مؤتمر الصومام نجد التقسيمات الآتية:
المجاهدون: وهم الذين يشنون الهجمات والغارات ويلتحمون بالقوى الاستعمارية بخطط حربية.
المسبلون: وهم الذين يقومون بتموين الجيش وحراسته في راحته، ويحمون الذخائر والجرحى، وتخريب الطرق والسكك الحديدية ويكشفون كل المعلومات عن تحركات العدو واتجاهاته، ويمكنون الجيش من التنقل داخل القرى والمدن، كما يشاركون في المعارك أيضا.
الفدائيون: رجال مسلحون يعيشون في القرى والمدن والعواصم، لا يرتدون الزي العسكري ولا يحملون السلاح إلا عند تنفيذ المهمة، ويحققون أهدافهم في الأماكن التي يظنها المستعمر منيعة ليقيموا الدليل على أنه لا مفر من أحكام الثورة ولا نجاة من عقابها. وهم الذين قال عنهم المجاهد العربي بن مهيدي لدى عودته من مؤتمر الصومام: إن هؤلاء الرجال من دون الزي العسكري يعتبرون في نظر جيش التحرير وجبهة التحرير العيون والآذان والأعضاء بالنسبة لكائن حي.
ولفظة “المحتشد” وجمعها “محتشدات” من ألفاظ هذه المرحلة، وتعني ضربا من أماكن الإقامة تشبه أن تكون مخيمات وسجونا كبرى، قام المستعمر بتجميع الناس أو المواطنين فيها عندما اشتدت الحرب ضده، وشعر بخطورتها، وبمساندة الناس والشعب لقوى جيش التحرير، فلجأ إلى تهجير المواطنين من بيوتهم وأماكن إقامتهم الأصلية، وجمعهم في أماكن خاصة لمنعهم من الاتصال بجيش التحرير، بأعداد هائلة: “كانت القوات الفرنسية إضافة إلى عملياتها العسكرية تقوم بتهجير سكان الريف من مساكنهم وتجميعهم في محتشدات قريبة من مراكزها العسكرية، حتى تضمن الفصل التام بين الشعب وجيش التحرير.
وهذه المحتشدات في هذه الحقبة تستحق أن تضاء كتجربة مهولة فيها تهجير جماعي، وعقوبات جماعية لا تدل إلا على جنون المستعمر رغم مرور نحو 130 عاما على وجوده الاحتلالي، فهو لم يعرف كيف يتعامل مع هذا الشعب وكيف يدفعه إلى الاستسلام وكيف يقنعه بوجوده.
مراجعة ونقد: الحواشي السوداء..
أشار “فرانز فانون” إلى بعض “الحواشي السوداء” التي حصلت في الثورة الجزائرية، مثلما حصلت في ثورات كثيرة، وأشار إلى بعض الظروف التي أنتجتها وحاول أن يخفّف من أثرها، بوصفها أخطاء لا تمس جوهر الثورة وآمالها الممتدة نحو التحرر والاستقلال، “فليس من السهل قيادة كفاح شعب بأقل قدر ممكن من الأخطاء، شعب زعزعته بقسوة 130 سنة من السيطرة ضد عدو مصمم وشرس مثل الاستعمار الفرنسي.
وفعل الطاهر وطار في رواية “اللاز” شيئا من هذا، عندما وصف تصفيات بعض قادة المجاهدين لزملائهم، من خلال ما آل إليه مصير “زيدان” أحد القادة الذين مجدت الرواية نضالهم، ولكن انتماءه إلى الحزب الشيوعي لم يكن موضع رضا بقية أطياف جيش التحرير، فقد تشكلت جبهة التحرير على أساس فردي وليس حزبيا، ورفض زيدان هذا التوجه، ورفض التخلي عن حزبه، فتمت محاكمته وتصفيته من قادة آخرين يعرفهم ويعرفونه إلى جانب بعض المؤيدين للثورة من خارج الجزائر، من الإسبان والفرنسيين أنفسهم.
وها هي رواية الحبيب السائح تتوسع في هذا الجانب النقدي، فإلى جانب جهدها في تصوير المواجهة مع الاستعمار ووصف بعض القادة المخلصين، فإنها أيضا خصصت بعض فصولها لإنارة “الحواشي السوداء” وكشف بعض المسكوت عنه، مما كشفته مذكرات قدامى المجاهدين وشهاداتهم التي أشارت إلى ما هو أبعد من الحواشي، أي إلى بقع داكنة سوداء، ارتبكت بعضها عن قصد وتصميم في سياق الصراع على السلطة وتصفية المنافسين المحتملين، إلى جانب بعض التسرع واستسهال القتل أو التصفية حلا لأي مشكل بدلا من الحوار.
وأكثر الأحداث درامية من هذا النوع مما أثر في الرواية وشخصياتها حادثة قتل العقيد محمد شعباني أصغر عقيد في جيش التحرير وأحد أبرز القادة النابهين، وقد تبنت الرواية براءته ونددت بالظلم الذي وقع عليه، من خلال موقف بوزقزة الراسخ منه، وما أوردته من معرفته بالرجل، وبما تقصاه من أسباب براءته، التي تدين في الوقت نفسه قتلته، رغم أنهم بعض رفاقه، خشية من شعبيته وقدراته الخاصة التي تجعله منافسا لهم في وقت قريب. فاختاروا التخلص منه: “لماذا صمت مولاي بوزقزة بعد أن أُسكت العقيد شعباني رميا بالرصاص قبل48 عاما؟ كي لا يقول شيئا آخر عدا أنه كان رجع إلى الكازمة [مخبأ تحت الأرض] نهاية العام الثالث 1957 من الحرب، رفيع المعنويات لحصيلة 5 قتلى في صفوف كتيبة المشاة السادسة وغنم أسلحتهم إثر أول كمين نصبه مع فصيلته قرب مدينة باليسترو، الأخضرية حاليا.
ومن خلال تحريات كولونيل الزبربر سواء عبر مذكرات والده أو مصادر أخرى فإنه يتبنى براءة العقيد شعباني: “إن أنا مت يوما فلبعض الحزن أيضا على إعدام عقيد حرب تحرير بيد إخوة له، عمره 30 سنة. شعباني راح ضحية لأخطاء الاستقلال… ولنزوع الاستحواذ على السلطة دون اقتسام.. ولأسباب أخرى أكثر خطورة سيعريها التاريخ.
وتتوسع الرواية في تقصي هذه الحادثة المؤلمة وتوليها اهتماما موسعا لتكون إحدى أطروحاتها السياسية المهمة، فتذهب مثلا إلى وصول كولونيل الزبربر من خلال علاقته بالجنرال نعيم رزاز إلى تقرير “سري للغاية” يخص مقتل شعباني، والطريقة العبثية المتعجلة التي حوكم عبرها، وسرعة تنفيذ الحكم بالإعدام، وعندما يعرف الكولونيل تفاصيل الحادثة يصل إلى نتيجة مفادها: “لولا أني سمعت من قبل عن عقيد اسمه شعباني ورأيت صورته ولم أعرف مصيره بهذه الدرامية لاعتقدت ما قرأته عنه الآن تخييلا تجدر به رواية. هذا وطنك ولا جيت براني يا غريب المحنة لله جاوبني. ويمكن أن نؤسس على هذه المراجعات أن من مهمة السرديات الجديدة أن تعيد الاعتبار للشخصيات التي ظلمت أو استقوت عليها قوى أخرى، في ظل دولة الاستقلال.
ويضاف إلى الحادثة السابقة مواقف الشك في المتعلمين وفي طلبة الجامعة الذين التحقوا بالثورة، ووصف مفصل لأساليب تعذيب بعض الأبرياء، والتحقيق معهم لحملهم على الاعتراف ظنا أنهم جواسيس أرسلتهم إدارة الاستعمار، ويبدو أن الرواية تتبنى براءة أولئك الطلبة، إلى جانب إبراز صراع بعض القادة العسكريين مع المتعلمين وخشيتهم من تطور قدراتهم واكتسابهم مكانة صاعدة في ظل ممارستهم للعمل الثوري. تنتقد الرواية مثل هذه السلوكات ولا تعدها مسوغة أو مبررة. وكذلك وصف العقوبات القاسية المخيفة تجاه بعض المخالفات الاجتماعية والأخلاقية بصورة قاسية مبالغ فيها.
لم تتجنب الرواية هذا الجانب ودفعت شخصياتها الثورية المجاهدة لتقديم كشف حساب بكثير من هذه الممارسات التي تستحق النقد دون الخشية من فكرة تشويه الثورة التي يواجه بها كل من ينقد الثورات. وورد في الرواية صورة تمثيلية لهذه التعميمات التي تنبه إلى الشك في فئات بعينها.
وهناك سؤال تطرحه الرواية ضمنا وصراحة عن تغير الثوار الذين تسلموا السلطة، بعدما غدوا رجال حكم وسياسة، فيهم كثير من التوحش والقسوة وقلة التسامح، والضيق بالخصوم: “لماذا تغير كثير ممن عاهدوا على ألا يخونوا الأمانة؟…أولئك الذين بدلوا نساءهم أو أضافوا إليهن والذين استولوا على سكنات ومحلات وعلى أراض أيضا والذين بسطوا في دواويرهم ومداشرهم نفوذا لا يختلف عن سيطرة القياد والشنابط ومن تولوا المسؤولية في الإدارات والمحاكم ومخافر الشرطة، فلم يختلفوا عمن كانوا فيها من قبل سوى في الأسماء… ذلك ما ظن كولونيل الزبربر [أنه] رآه على الأقل في بعض من صاروا من أولئك المجاهدين ضباطا سامين في تراتبيته العسكرية.
وأخيرا، تظل تجربة ثورة التحرير الجزائرية علامة كبرى في التاريخ العربي والعالمي المعاصر، بنتائجها ومعانيها الباقية التي ألهمت حركات التحرر وما زالت تمثل منبعا للإلهام الثوري التحرري، فرغم ما تعرض له شعب الجزائر وأرضها ومواردها من تنكيل وتدمير فقد نجحت الثورة وبنت جسرا من الحرية عبدته بالدماء الطاهرة.
تعليقات