القاهرة (خاص عن مصر)- في رواية مؤلمة للغاية، كشف الجراح المتقاعد والأستاذ في هيئة الخدمات الصحية الوطنية نظام محمود عن الأهوال التي شهدها أثناء تطوُّعه في غزة خلال صيف عام 2024.
ترسم شهادته المباشرة، التي نُشرت في صحيفة الجارديان، صورة قاتمة للأزمة الإنسانية في المنطقة المحاصرة؛ حيث يتحمَّل الأطفال وطأة العنف المستمر. كما تقدم رواية محمود نقدًا لاذعًا لتواطؤ حكومة المملكة المتحدة في الصراع، وخاصة رفضها إدانة تصرفات إسرائيل وإمداداتها المستمرة بالأسلحة.
الانحدار إلى الفوضى
سافر محمود، الأستاذ السابق لجراحة زرع الأعضاء في مستشفى تعليمي في لندن، إلى غزة في أغسطس 2024 كجزء من فريق طبي طارئ للمساعدة الطبية للفلسطينيين. ما واجهه كان مشهدًا من الدمار لا يمكن تصوره. “منذ اللحظة التي عبرنا فيها إلى المنطقة”، يكتب: “أصبحت الحياة تجربة غريبة ومربكة من التطرف”.
استحضرت الرحلة إلى مستشفى ناصر في خان يونس صور هيروشيما، حيث سويت المباني بالأرض المغبرة وغياب مخيف للناس. كان المستشفى نفسه مشهدًا لـ “الفوضى في العصور الوسطى”، مع عنابر مكتظة، وفرشات قذرة، ونقص حاد في الإمدادات الطبية الأساسية.
يروي محمود عملية جراحية لطفل يبلغ من العمر ثماني سنوات بدون مسحات شاش متوفرة، واضطر إلى جمع الدم بيديه. يكتب: “شعرت بموجة ساحقة من الغثيان. كنت قلقًا من أن الطفل لن ينجو”.
اقرأ أيضًا: الرسوم الجمركية لترامب.. رؤية جديدة للعصر الذهبي أو مقامرة اقتصادية؟
الخسائر في الأرواح على الأطفال
إن أكثر الصور المزعجة بالنسبة لمحمود هي صور الأطفال المصابين. يصف علاج عامر البالغ من العمر سبع سنوات، الذي أصيب برصاصة من طائرة بدون طيار بعد قصف. عانى الصبي من إصابات في الكبد والطحال والأمعاء، مع بروز جزء من معدته من خلال صدره. في حين نجا عامر، لم ينجُ كثيرون آخرون.
يسلط محمود الضوء على الاستهداف المتعمد للأطفال، مستشهدًا بأدلة على إطلاق قناص النار مما أدى إلى جروح برصاصة واحدة في الرأس. ويشير إلى رسالة وقعها 30 طبيبًا وممرضًا من المملكة المتحدة عملوا في غزة، وأُرسلت إلى زعيم حزب العمال كير ستارمر في أغسطس 2024، والتي وثقت الاستهداف المتعمد للأطفال. وأثار 99 عاملاً صحيًا أمريكيًا مخاوف مماثلة في رسالة إلى الرئيس جو بايدن.
يكتب محمود، مرددًا استنتاجات خبراء حقوق الإنسان التابعين للأمم المتحدة ومنظمة العفو الدولية ومنظمات أخرى: “يشعر الفلسطينيون بأنهم يتعرضون لإبادة جماعية. من الصعب الجدال معهم”.
فشل القيادة الأخلاقية
إن رواية محمود ليست مجرد إدانة للعنف في غزة، بل إنها أيضًا إدانة دامغة لدور الحكومة البريطانية في الصراع. ويعرب عن خجله العميق لأن حكومة حزب العمال، التي كان يدافع عنها، رفضت إدانة تصرفات إسرائيل بنشاط واستمرت في توريد الأسلحة.
“إن القوة السياسية قد تتطلب التسويات والتنازلات خلف الكواليس”، يكتب، “ولكن هناك بعض الخطوط الحمراء الأخلاقية التي لا ينبغي لنا أبداً أن نتجاوزها، مهما كانت التكلفة السياسية”. وبالنسبة لمحمود، فإن الأزمة في غزة تشكل اختباراً حاسماً للشجاعة الأخلاقية التي يتمتع بها زعماء القرن الحادي والعشرين ــ وهو الاختبار الذي فشلت المملكة المتحدة في تحقيقه حتى الآن.
نداء للمساءلة
حتى لو صمد وقف إطلاق النار، يحذر محمود من أن إعادة الإعمار المادي والمجتمعي لغزة سوف تستغرق سنوات. ويأمل بعمق أن يُمنح أطفال مثل عامر الفرصة لمستقبل لائق وإنساني. ومع ذلك، يؤكد أن المساءلة أمر ملح.
“ربما توقف القصف الآن”، يكتب، “ولكن ضرورة محاسبة أولئك الذين ارتكبوا جرائم ليست أقل إلحاحاً”.
ذنب الجراح وعزيمته
لقد تركت تجربة محمود في غزة شعوراً ساحقاً بالذنب لتمكنه من العودة إلى حياة سهلة بينما يواجه الملايين في غزة الجوع والتهديد المستمر بالعنف. لقد تحول هذا الشعور بالذنب منذ ذلك الحين إلى عار ــ عار على حكومة فشلت في اتخاذ موقف أخلاقي.
إن روايته تشكل تذكيراً قوياً بالتكلفة البشرية للصراع والحاجة الملحة إلى أن يعطي زعماء العالم الأولوية للإنسانية على السياسة. وكما يخلص محمود، فإن الأزمة في غزة ليست مجرد اختبار لأولئك المتورطين بشكل مباشر، بل وأيضاً لضمير العالم.